
في جواب السيد حسين بن السيد عبدالقاهر البحراني في تبيين كلام الملا محسن الكاشاني في معنى الفناء في الله والبقاء بالله
حسب جوامع الكلم – المجلد الاول
طبع في مطبعة الغدير – البصرة
في شهر ربيع الاخر سنة 1430 هجرية
وبعد فيقول العبد المسكين احمد بن زينالدين الاحسائي قد ارسل إليّ بعض السادات الصالحين الطالبين للحق والدين وهو السيد السند السيد حسين بن السيد عبدالقاهر بن السيد حسين البحراني في تبيين كلام الملا محسن الكاشاني في معنى الفناء في الله والبقاء بالله وما يسنح لذلك من المعاني فكتب لي بلغه الله أعلى الاماني عبارة الملا فجعلتها كالمتن المحلي وجعلت تلك الكلمات كالشرح لها بل اجلى
قال اطال الله في الخيرات بقائه واسعده بحسن لقائه ورضاه قال (ره) : قال اهل المعرفة المراد بفناء العبد ليس فناء ذاته
اقول انما قالوا ليس فناء ذاته يعني في الله لان ذلك يستلزم الاتحاد والاتحاد يستلزم مساواة المتحدين او مجانستهما ولا يكون ذلك لامتناع ذلك عليه سبحانه وتقدسه عن امكان المساواة والمجانسة والمتصوفة قالوا بذلك المعنى يتأولونه فخروا به من السماء فتخطفهم الطير وهوت بهم الريح في مكان سحيق وان كان يوهم على بعض من ادعى العرفان بانه حق وذلك لعدم تحقق عرفانه ومن اشعارهم فيما تأولوه قول شاعرهم :
جعلت نفسك في نفسي كما جعل الخمرة في الماء الزلال
فاذا سرك شيء سرني فاذا انت انا في كل حال
ولا فائدة في الكلام معهم ولسنا بصدد كلامهم وبالجملة ليس المراد بفناء العبد في الله فناء ذاته في الله لما قلنا
قال (ره) : بل المراد فناء الجهة البشرية التي له في جهة ربوبية الحق فان كل عبد له جهة من الحضرة الالهية ولكل وجهة هو موليها
اقول ان مرادهم بفناء العبد في الله فناء جهة البشرية التي هي وجود من الله سبحانه في ربوبية الحق سبحانه بان لا يكون له اعتبار من نفسه وليس له التفات الى حال من احواله بل كلها مستغرقة في الاقبال على الله والالتفات الى جنابه في حركات العبد وسكناته وجميع شئونه كما قال تعالى : قل ان صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له وبذلك امرت والمثل في ذلك ولله المثل الاعلى مثل عبد عرف مالكه بحيث كانت جهة عبوديته ورقيته فانية في جهة مالكية مولاه بمعنى انه في جميع احواله ليس له اعتبار من نفسه لا يفعل الا ما امره سيده ولا يتحرك ولا يسكن الا بما يأمره مولاه فهو مراقب في كل احواله لخدمة مولاه ففي الحقيقة هذا العبد عرف مولاه حق معرفته بحيث فنت جهة عبوديته ورقيته في مالكية مولاه ولو انه فعل شيئا بغير امر مولاه لكان حينئذ مستقلا في ذلك الفعل متعينا في نفسه بحيث يقال ان فعله هذا الشيء ليس فعلا لمولاه لانه ليس بامره ولا يكون في هذه الحال فانيا بعبوديته وجهة رقيته في مالكية مولاه بل خالف مقتضى ذلك وفي الحال الاول في الحقيقة فعله هو فعل مولاه ولا يلام على شيء قط بخلاف الحال الثاني فانه ملوم لاستقلاله بفعله فلا يكون في فعله فانيا في مالكية المولى قال الله تعالى تحقيقا لما في الحال الاولى وما رميت اذ رميت ولكن الله رمى فجعل سبحانه فعل نبيه صلى الله عليه وآله مستهلكا في فعله سبحانه لانه فني فيه بهذا المعنى
وقوله فان كل عبد له جهة من الحضرة الالهية يعني به ان العبد في كل احواله وشئونه ليس له من نفسه ولا من احد من الخلق حول ولا قوة لان الممكن ابدا مفتقر الى الغير في تحقيق ( تحقق خل ) شيئيته وهو في كل احواله متوجه بوجه استعداده لقبول ذلك المدد الذي به قوامه من ذلك الغير الى جهة خاصة به من حضرة المفيض ومثاله الصورة في المرءاة ليس لها قوام بنفسها ولا تحقق وانما تقومت بالمدد التي تستمده من المقابل وذلك المدد هو حقيقتها من الجهة الخاصة بها من المقابل فاذا قابلت المرءاة الوجه من الشخص مثلا انطبعت فيها صورة الوجه وتلك الصورة المنطبعة لا حقيقة لها الا صورة الوجه وبها قيومية المنطبعة وهي محتاجة الى دوام الاستمداد والى جهة الوجه تولت المنطبعة والا لم يكن شيئا وتلك الجهة هي باب الوجه يعني ظاهر الصورة وهي جنابه ايضا فالوجه ممد ( يمد خل ) المنطبعة من هذا الباب والمنطبعة واقفة على هذا الباب بسؤال ( سؤال خل ) استعدادها وقابليتها ( قابلياتها خل ) لائذة بامكانها وفقرها لذلك الجناب واليه الاشارة بقول سيد العابدين عليه السلم: الهي وقف السائلون ببابك ولاذ الفقراء لجنابك ( بجنابك خل ) ولهذا استدل رحمه الله مأولا بقوله تعالى : ولكل وجهة هو موليها ولكن هنا سر طوي عن اكثر العارفين وستر عن اكبر ( اكثر خل ) الواصلين وهو قوله تعالى : هو موليها لانه ولاها ما تولت بتوليته وهو سر خفي من اسرار القدر مقنع بسر مقنع بسر لا يفتح الا بمقلاد من مقاليد اللاهوت وبالجملة فجهة المنطبعة يعني انيتها وشيئيتها في جهة صورة الوجه كما مر
قال رحمه الله وهذا الفناء لا يحصل الا بالتوجه التام الى جانب الحق المطلق حتى تغلب الجهة الحقيقة على الجهة الخلقية
اقول لانك اذا نظرت الى الصورة المنطبعة مع قطع النظر عن صورة الوجه تحقق لها ماهية في نفسها وشيئية قائمة بذاتها ولكنك جهلت الحقيقة ولم تعرف الامر على ما هو عليه في نفس الامر لان حقيقتها ليست شيئا الا بما ظهر فيها من صورة الوجه المقابل فاذا نظرت بهذا الاعتبار ومحوت موهومها صحا لك المعلوم من تلك الحقيقة انها هي صورة الوجه المقابل وهو معنى غلب الجهة الحقية ( الحقيقة خل ) على الجهة الخلقية فاذا عرفت ذلك وهو فناء جهة المنطبعة في جهة الوجه عرفت المنطبعة بالوجه لا العكس وعرفت الوجه بالوجه قال عليه السلم: يا من دل على ذاته بذاته وقال عليه السلم: الله اجل من ان يعرف بخلقه بل الخلق يعرفون به وقال امير المؤمنين عليه السلم: لو عرفت الله بمحمد صلى الله عليه وآله ما عبدته ثم انه رحمه الله ضرب مثلا لهذا الفناء كما ضربوه فقال كقطعة الفحم المجاورة للنار فانها بسبب المجاورة والاستعداد بقبول النارية تشتعل قليلا قليلا الى ان تصير نارا فيحصل منها ما يحصل من النار من الاحراق والانضاج والاضاءة وغيرها وقبل الاشتعال كانت باردة كدرة وهذا المثال مثال الحال ( لحال خل ) العارف الفاني ومآل امره فانه اذا قطع الاعتبارات حتى قطع الاعتبارات نفسها كما قال عليّ عليه السلم: كشف سبحات الجلال من غير اشارة يعني ان الاشارة ايضا من سبحات الجلال فهي حجاب بل الكشف حجاب ولهذا روي عنهم عليهم السلم ما معناه: ان المحبة حجاب بين المحب والمحبوب فاذا كشف ( قطع خل ) جميع الاعتبارات تحقق الفناء وحصل له حقيقة المثال يعني مثال الفحمة اذا اشتعلت بالنار انها تكون بصفة النار وهو قول عليّ عليه السلم: وخلق الانسان ذا نفس ناطقة ان زكيها بالعلم والعمل فقد شابهت جواهر اوائل عللها فان ( فاذا خل ) اعتدل مزاجها وفارقت الاضداد فقد شارك بها السبع الشداد ه واذا ( فاذا خل ) تحقق ذلك تحققت ( تحقق خل ) محبة الله له فيكون كما قال تعالى في الحديث القدسي: فاذا احببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده الذي يبطش بها الحديث وقوله تعالى ايضا: يا عبدي انا اقول للشيء كن فيكون ( فيكون اجعلك مثلي تقول للشيء كن فيكون خل ) الخ وبهذا الكشف يظهر لك الحجة في قول الحجة عليه السلم: لا فرق بينك وبينها الا انهم عبادك وخلقك ثم بين رحمه الله الطريق الموصل الى ذلك
فقال وذلك التوجه لا يمكن الا بالاجتناب عما يضادها ويناقضها وهو التقوى مما عداها فالمحبة هي المركب والزاد هي التقوى
يعني ان كل مسافر يريد قطع مسافة يحتاج الى الزاد والراحلة لانهما شرط الاستطاعة وهذا السفر قبل حصول الشروط وقبل قطع المسافة والبلوغ الى الغاية ابعد من كل سفر لان السفر قد ذكره الله تعالى في قوله: لم تكونوا بالغيه الا بشق الانفس وهذا لم تبلغوه الا بكل الانفس واذا حصلت الشروط كان هذا السفر اقرب من كل سفر قال عليه السلم : وان الراحل اليك قريب المسافة فاخبر عليه السلم بقرب المسافة للراحل لا للمقيم فافهم فالمطية هي المحبة يعني الصادقة وهي ايثار المحبوب على كل ما سواه والطريق الموصل والثمن المبلغ الى تحصيل هذه الراحلة الطيبة هي القيام بالاداب الشرعية والصبر على الاخلاق الروحانية قال الله تعالى: ما زال العبد يتقرب إليّ بالنوافل حتى احبه فاذا احببته كنت سمعه الذي يسمع به الحديث واما الزاد فقد امر الله بذلك العباد فقال تعالى : وتزودوا فان خير الزاد التقوى وهي تقوى الله في سرك وتقوى نفسك في احوالك وتقوى الناس في معاملاتهم وما يرتبط ويتعلق بهم وهو معنى قوله الاجتناب عما يضادها ويناقضها في هذه المراتب الثلاث والضمير في يضادها ويناقضها يعود على الجهة الحقية والمناقض لها الجهة الخلقية نفسها وجميع ما لها من احكام الامكان فمن القيها بحذافيرها حييت بربها قال تعالى في حق موسى: وما تلك بيمينك اي بوجودك يا موسى قال هي عصاي اتوكأ عليها يعني اي اعتمد عليها في تحقق الانية واهش بها على غنمي من رعاياه وانعامه من جميع امته ولي فيها مأرب اخرى استدل بفقرها على غناك وبجهلها على علمك وبعجزها على قدرتك وبحدوثها على ازليتك وبعدم حصرها على سرمديتك وبعدم حلولها على تفردك وغناك وبعدم معرفتها على قدسك وبمفارقتها على بينونتك عن خلقك بصفتك الى غير ذلك قال القها يا موسى واستغن ( استعن خل ) بي عما سواي ولا تعتمد على غيري ولا تلتفت الى شيء فاكلك اليه فالقها بكل اعتبار فاذا هي حية تسعى وهي مثال للبقاء بالله قال خذها بعد ما حييت بالالقاء سنعيدها في قوس ادبر فادبر سيرتها الاولى فافهم فهمك الله
واياك واسم العامرية انني اخاف عليها من فم المتكلم
ولقد لوحت ( نوهت خل ) لاهل الاشارة على خوف من فرعون وملئهم ان يفتنهم قال الشاعر :
اخاف عليك من غيري ومني ومنك ومن مكانك والزمان
ولو اني جعلتك في عيوني الى يوم القيمة ما كفاني
ولا حول ولا قوة الا بالله العليّ العظيم وصلى الله على محمد وآله الطاهرين والحمد لله رب العالمين
تمت بقلم منشئها حامدا مصليا مستغفرا في شهر رمضان سنة ١٢١١ الحادية عشرة بعد المائتين والالف من الهجرة والحمد لله رب العالمين