الرسالة الجعفرية (في جواب ۸ مسائل)

الشيخ أحمد الاحسائي
النسخة العربية الأصلية

الشيخ أحمد الاحسائي - الرسالة الجعفرية (في جواب ۸ مسائل)

الرسالة الجعفرية

في جواب الميرزا جعفر نوّاب

من مصنفات

الشيخ أحمد بن زين الدين الاحسائي

حسب جوامع الكلم – المجلد الاول
طبع في مطبعة الغدير – البصرة
في شهر ربيع الاخر سنة 1430 هجرية

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد وآله الطاهرين

أما بعد فيقول العبد المسكين أحمد بن زين ‌الدين الإحسائي إنه قد ورد علي من جناب عالي الجناب وسلالة الأطياب والباب المستطاب ولب الألباب المولى الأفخر ذي العقل الأنور الأسعد جعفر بن المرحوم الميرزا احمد المشتهر بالنواب فتح الله عليه ابواب هداه واراه مبدءه ومنتهاه واخذ بيده إلى رضاه وزوده بمدد التوفيق لسعادة آخرته ودنياه وزاده في جزيل احسانه اليه واولاه وكفاه شر عداه وحفظه من كل قاصد اليه باذية ورعاه بحرمة محمد وآله الهداة امين رب العالمين مسائل دقيقة خفية عميقة طلب من محبه الداعي له جوابها فشرعت في الجواب امتثالا لامر ذلك الجناب على سبيل الاشارة والاختصار اعتمادا على صفاء ذاته الوقادة وفكرته النقادة وجعلت كلامه الشريف متنا والجواب شرحا ليخص كل شي‌ء من السؤال بما يحتاج اليه من المقال على حسب مقتضى الحال فاقول وبالله الاستعانة

قال أيده الله بمدده ورضاه أن يفيد معنى الكشف وإن المكشوف له هل يرشح على النفس من حاق حقيقة ذاتها وتعاينه منها أو من كتاب آخر
أقول اعلم وفقك الله أن معنى الكشف هو كشف الحجب التي على النفس الناطقة القدسية التي من عرفها فقد عرف ربه والحجب على أقسام :

۱) منها حجب عقلية وهي المعاني المعقولة ومعنى كونها حجبا ان المعاني فيها كثرة معنوية وتشخصات عقلية غير متمايزة بالصور وان تمايزت في المعنى ولونها البياض ولها اوقات دهرية وامكنة نورية فبسبب وجود امكنتها واوقاتها وتعددها تكون حاجبة للنفس عن مشاهدتها البساطة الحقيقية

۲) ومنها حجب روحية وهي مبادي صور تلك المعاني العقلية وتسمى في الاصطلاح بالرقائق وهي متمايزة في الجملة بنوع من التصوير لان صورها غير تامة التخطيط ولونها اصفر وهي اشد حجبا من المعاني

۳) ومنها حجب نفسانية وهي صور تلك المعاني العقلية بتمام تخطيطها فهي تامة التمايز ولونها اخضر وهي اشد حجبا من الرقائق

٤) ومنها حجب طبيعية وهي مراكب تلك الصور النفسانية الذائبة وحواملها المائعة وهي اشد من الصور حجبا ولونها احمر

٥) ومنها حجب هيولانية وهي اوعية تلك الطبيعية واشد حجبا منها ولونها كمد وجميع هذه الحجب اوقاتها الدهر وامكنتها النور كالعقلية الا انها تترتب في العلو والشرف والتجرد على حسب ترتيبها كما ذكرنا

٦) ومنها حجب مثالية وهي هذه المقادير التي تدركها الابصار وترى في المرايا وغيرها وهي بين الدهر والزمان فاعلاها متعلق بالدهر واسفلها منغمس في الزمان ومعنى هذا انها في الدهر بذاتها وفي الزمان بالتبعية لما تتعلق به من الاجسام ومكانها بذاتها وراء محدد الجهات وبتبعيتها في جوفه لتعلقها بالاجسام وهي اشد مما سبق حجبا ولونها خضرة عميقه تميل إلى السواد

۷) ومنها حجب جسمانية وهي الاجسام من العلوية والسفلية الجمادية والنامية والحيوانية ولونها السواد وهي اشد حجبا مما سبق ووقتها الزمان وحيزها المكان وهو مقصد المتحرك

۸) ومنها حجب عرضية كالالوان والحركات والاضافات والنسب والشؤن والاعراض والمطالب والشهوات والالام وما اشبه ذلك مما هو راجع إلى النفس والنساء والبنين والاموال وغير ذلك وهي اغلظ الحجب واكثفها واشدها حجبا ولونها السواد الحالك الذي لا يهتدي فيه السائر الا بمصباح مضي‌ء وسراج منير

فهذه ثمانية حجب كلما كان اسفل كان اغلظ ومنها حجاب النفس وهو محيط بجميع تلك فهو اولها وآخرها واوسطها وكلها واصعبها خرقا وفيه جميع الوان الموجودات وله جميع امكنتها واوقاتها فافهم

فهذه الحجب الثمانية كلما خرقت منها حجابا انكشف لك ما وراءه حتى تصل إلى حجاب النفس فاذا خرقته عرفت ربك وتجلى لك في فؤادك بنور عظمته واعلم ان مطلوبك عندك كما قال الشاعر :

كم ذا تموه بالشعبين والعلم والأمر أوضح من نار على علم
أراك تسأل عن نجد وأنت بها وعن تهامة هذا فعل متهم

والدليل على ذلك وهو ان الكشف لك انما هو عن حقيقة ما اودع الله فيك قوله تعالى : واتقوا الله ويعلمكم الله وقال تعالى : ولما بلغ أشده واستوى آتيناه حكما وعلما وكذلك نجزي المحسنين والمحسن من اجتمع قلبه فيما يراد منه وفي الحديث القدسي ما معناه قال الله تعالى : من أخلص لله العبودية أربعين صباحا تفجرت ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه فإن كان مؤمنا كان هدى له وإن كان كافرا كان حجة عليه ومن الدليل ان مطلوبك كامن فيك ما روي عن امير المؤمنين (ع‌) قال : ليس العلم في السماء فينزل إليكم ولا في الأرض فيصعد إليكم ولكن العلم مجبول في قلوبكم تخلقوا بأخلاق الروحانيين يظهر لكم ومثل معناه ما روي عن عيسى بن مريم (ع‌) : فالكشف ليس من شي‌ء غيرك ولا يرشح عليك الا منك ولهذا ترى المعلم اذا اورد عليك معنى لا تدرك الا ما في وسعك لان الاستاذ منبه ومذكر لك ما نسيت من فطرتك التي خلقت عليها وفي هذا كفاية

قال ايده الله تعالى : وان يفيد ايضا ان الصلوة المقررة في الشريعة مأخوذة من اي شي‌ء ولم شرعت على ما شرعت عليه ولم جعلت خير موضوع
اقول ان الصلوة مأخوذة من اربعة معان :
۱) الاول هي مأخوذة من الرحمة فامر الله عبده بها رحمة له وفعل العبد لها ترحم من الله تعالى وطلب منه سبحانه لما اعد لمن امتثل امره من الرحمة في الدنيا بدفع البلايا وادرار الرزق والانساء في العمر والمحبة في قلوب اولياء الله وقضاء حوائجه للدنيا والاخرة وفي الاخرة بغفران ذنوبه وادخاله الجنة التي هي دار رضاه ومجاورة اوليائه (ع‌)

۲) الثاني من الاستغفار لانها سبب لمغفرة ذنوبه لانها عمود الدين اذا قبلت قبل ما سواها وان ردت رد ما سواها ولان الملائكة تستغفر للمصلي لانها هي سبيل الله وفرع سبيل الله قال الله تعالى اخبارا عن ملائكته : الذين يحملون العرش ومن حوله يسبحون بحمد ربهم ويؤمنون به ويستغفرون للذين آمنوا ربنا وسعت كل شي‌ء رحمة وعلما فاغفر للذين تابوا واتبعوا سبيلك وقهم عذاب الجحيم الايات وشرح ذلك لا تسعه هذه الكلمات القليلة والاشارة تكفي اهلها ان شاء الله تعالى

۳) الثالث من الدعاء وهو باطن الا انا نشير اليه وهو ان الله سبحانه دعا عباده إلى القرب من رحمته بهذه العبادة الخاصة بنياتهم وتكبيراتهم وقراءتهم وركوعهم وسجودهم والسنتهم وهيئاتهم وحركاتهم وسكونهم دعاء لا يكون دعاء اشمل منه ولا اقرب استجابة لانهم دعوه بالسنتهم وعيونهم وايديهم وارجلهم وقيامهم وقعودهم وسجودهم وجهرهم واخفاتهم وجميع جوارحهم وظاهرهم وباطنهم وشاهدهم وغائبهم

٤) الرابع انها مأخوذة من الصلة لانها صلة الله لعبده بمدده ومن الوصلة لانها سبيل الله إلى عبده فيما يمده وسبيل العبد إلى الله في دعائه وقابليته لمدده وفي اعماله ومن الوصل اي اتصال رحمة الرب سبحانه بعبده واتصال عبده بقربه فهي معراج المؤمن إلى قريب المسافة لمن قصده كما يحب سبحانه وتعالى

فهذه اربعة اوجه اخذت الصلوة منها على سبيل الاجتماع بمعنى ان كلا منها ملحوظ لا انها على سبيل الترديد بمعنى انها اخذت من احدها وهنا وجه آخر وهي ان الصلوة اخذت من الولاية وانما لم‌ ادخله فيها لان شرحها يخرجنا عما نحن فيه وفي ذلك مفسدة اذ مثل ذلك لا يستودع القرطاس اذا لارتاب المبطلون بل هو آيات بينات في صدور الذين اوتوا العلم صلى الله عليهم وعلى شيعتهم ومحبيهم قال (ع‌) : أبى الله أن يعبد إلا سرا

وقوله أيده الله تعالى : ولم شرعت على ما شرعت عليه
فاعلم ان الوجود الفائض عن الله تعالى كان على احوال مختلفة وهيئات متعددة وكله خير والله سبحانه يحب الخير ويجازي على كل خير ما يليق به ويناسب له ولما كان الانسان جامعا لصفات ما في العالم من ملك وجن وطير ووحش وهوت ونبات ومعدن وجماد وغير ذلك واعراضها وكان سبحانه يحب كل صفة حسنة من جميع خلقه من حيوان ونبات وجماد لانه جميل يحب الجميل وفعله الجميل وقد اعد لكل ذي حسن ثوابا وكان الانسان اقرب خلقه اليه واحبهم عليه ولأجله خلق ما خلق فاحب ان يوصله إلى جميع افراد محبته وثوابه دقيقها وجليلها واجرى عادته في الجزاء على حسب الاعمال كلفه بهذه الصلوة التي جمعت جميع الاشارات إلى جميع ما في الخلق كلهم ففي الخلق مثلا ملائكة قيام كقيام الصلوة وفيهم راكعون كركوعها وفيهم ساجدون كسجودها وفيهم قاعدون كقعودها وفيهم متشهدون كتشهدها وفيهم مكبرون كتكبيرها وفيهم قارئون كقراءتها وفيهم منتقلون كانتقال المصلي من حالة إلى اخرى وبالجملة فلم ‌يكن احد من الملائكة له تسبيح أو حال الا وفي الصلوة له مثال وكذلك غير الملائكة فالمخلوقات منهم متحرك كحركة الهوي والقيام وساكن كالطمأنينة ومنشأ كالسجدة الاولى ومقضي كالرفع منها وميت كالسجدة الثانية ومبعوث كالرفع منها وقائم كالراجع بعد الموت في الرجعة وهكذا ومحاسب كالمتشهد ولمفروغ من امره كالمسلم وهكذا والغيب كالنية والشهادة كصورتها وبالجملة فهي مشتملة على كل هيئة في العالم فمن اتى بها على ما حد له بلغ بها كل مرتبة من الخير فاراد الله سبحانه وله الحمد ايصال الانسان إلى كل خير قال تعالى : ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا وكان من اعظم ما كرمهم به وفضلهم ان كلفهم بهذه الصلوة التي هي اقرب الاعمال اليه واحبها لديه وقوله سلمه الله تعالى ولم جعلت خير موضوع يعرف مما ذكر

قال سلمه الله تعالى : وان يفيد معنى سبق رحمة الله على غضبه
اقول ان الله سبحانه لم ‌يخلق شيئا فردا لا ضد له بل كلما خلق من شي‌ء خلق له ضدا ليدل بذلك على الا ضد له قال تعالى : ومن كل شي‌ء خلقنا زوجين لعلكم تذكرون هذا من جهة فعل الخالق سبحانه واما من جهة المخلوق فان الممكن يستحيل ايجاده لا ضد له وتعجز حقيقته عن ذلك وبيانه انه سبحانه اذا خلق شيئا انخلق فكان ذلك الشي‌ء مركبا من الفعل والانفعال وتعجز حقيقته بدون ذلك فافهم فلما خلق الرحمة محبة لها اولا وبالذات خلق الغضب لانه من تمام قابلية الرحمة للايجاد فخلق الغضب ثانيا وبالعرض لان الرحمة من فيض جوده فهو يريدها لذاتها والغضب من خلف الرحمة فلا يريده لذاته وانما يريده لتمام الرحمة فكان وجود الرحمة قبل وجود الغضب واقرب إلى فعله ومحبته وكان يصف نفسه بالرحمة وينسبها اليه فيقول : إنه هو الغفور الرحيم ولا ينسب الغضب ولا ما يصدر عنه اليه فلا يقول انه هو الغضبان والمعاقب وانما يقول : إن ربك لشديد العقاب وإنه لغفور رحيم فينسب الغضب وما يصدر عنه إلى الفعل والرحمة إلى ذاته فهذا معنى سبقت رحمته غضبه ومعنى آخر وهو انه ما ذكر الرحمة والغضب أو العقاب في كتابه في موضع الا ويرجح جانب الرحمة على العقاب بوجهين أو ازيد ولأنه يريد ان يعاقب فقال : فتول عنهم فما أنت بملوم ثم رحم فقال وذكر فان الذكرى تنفع المؤمنين فسبقت رحمته غضبه في الوقوع في مقام وقوع الغضب وبالجملة فهذا شي‌ء لا يخفى والحمد لله

قال سلمه الله تعالى : وان يفيد ايضا ان الله تعالى : لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء
اقول انما غفر الله للكافر لانه اذا انكر الله قد لا يعرفه فيكون جاهلا في انكاره والعدل يقتضي ألا يؤاخذ من لا يعلم وقد قال الله تعالى : وما كان الله ليضل قوما بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون وغير ذلك واما المشرك فانه عرف الله واشرك معه غيره بعد المعرفة فلم ‌يقبل منه ومراتب الشرك تتحقق في اربعة مواضع :

۱) الاول : أن يجعل مع الله إلها شريكا في وجوب وجوده
۲) الثاني : أن يجعل له شريكا في صفاته الذاتية
۳) الثالث : أن يجعل له شريكا في فعله
٤) الرابع : أن يجعل له شريكا في عبادته

۱) قال تعالى في الاول : وقال الله لا تتخذوا إلهين إثنين إنما هو إله واحد
۲) وفي الثاني : ليس كمثله شي‌ء
۳) وفي الثالث : أروني ماذا خلقوا من الأرض أم لهم شرك في السموات
٤) وفي الرابع : ولا يشرك بعبادة ربه أحدا

قال سلمه الله تعالى : وان يفيد معنى ما ورد عنهم عليهم السلام كثيرا من قولهم : اللهم صل على محمد وآل ‌محمد كما صليت على ابراهيم وآل ابراهيم
اقول ان العلماء اجابوا عن هذا السؤال باعتبار الظاهر باجوبة كثيرة واحسنها عند المحب الداعي ان المعنى اللهم صل على محمد وآل ‌محمد الذين هم احب اليك من جميع خلقك واقربهم الذين اصطنعتهم لنفسك واختصصتهم لك كما انك قد صليت على من هو دونهم ولولاهم لما خلقته ولا قربته فكما انك قد صليت عليه وهو انزل رتبة وشرفا عندك فصل على المقربين الاحبين عندك فان الصلوة عليهم اولى من الصلوة على غيرهم الذين هم دونهم وهذا معنى ظاهر لا يحتاج إلى البيان ويحتمل ان يراد بآل ابراهيم محمد وآله (ص‌) فيكون المعنى كما انك صليت عليهم مع ابيهم ابراهيم قبل ان توجدهم في الدنيا فصل عليهم بعد ايجادك اياهم بطريق اولى أو بمعنى مرة بعد اخرى والكل محتمل هذا بيان ذلك باعتبار الظاهر واما باعتبار الباطن فالمراد من قولك اللهم صل على محمد وآل ‌محمد سؤال الله ان يصل محمدا وآل ‌محمد برحمته اما من الصلة أو من الوصلة أو من الوصل وحيث كانت رحمة الله لا نهاية لها كان صلى الله عليه وآله باستعداده وبفضل الله الابتدائي وبدعاء جميع الخلق له (ص‌) بذلك لا يزال سابحا في بحار رحمة الله ولا غاية لذلك السير ولا نهاية في الدنيا والاخرة ومن اسباب ذلك التأهل الخارجية دعاء الداعين له بالصلوة عليه وانما كان دعاؤنا سببا من الاسباب لاستحقاقه لان دعاءنا له هو سبب اتصالنا بالرحمة كما هو حكم المتضايفين فلو لم ‌ينفعه دعاؤنا له لم ‌ينفعنا دعاؤنا له وليس ذلك النفع الذي بسببنا راجعا إلى ذاته وانما هو راجع إلى ظاهره ومظاهره فافهم وذلك كانتفاع الشجرة بورقها وانتفاع الورق من الشجرة فاذا تقرر هذا فنقول ان الظاهر في الوجود الزماني قبل الباطن كما ان الباطن في الوجود الدهري قبل الظاهر مثلا خلق الارواح قبل الاجسام باربعة الاف عام هذا في الوجود الدهري واما في الوجود الزماني فان جسم زيد خلقه الله قبل خلق روحه فإنه كان نطفة وكانت النطفة علقة ولم‌ توجد الروح وانما هي في النطفة بالقوة في غيبها كالنخلة في غيب النواة بالقوة وكذا العلقة والمضغة والعظام والاكتساء لحما إلا أنها في كل رتبة متأخرة تقرب درجة من القوة إلى الفعل لكنه سيال تدريجي حتى يتم الاكتساء لحما وتتم الآلات فتبدو الروح فيه كما تبدو الثمرة من الشجرة فكانت الارواح قبل ذلك مشعرة بالشعور الجبروتي والملكوتي كذلك حركتها وكلامها وجميع افعالها كلها جبروتية ملكوتية واما افعالها بعد ظهورها في الجسم فهي زمانية لم ‌توجد إلا بعد وجود الجسم فقد ظهر بهذه الاشارة أن الباطن متأخر وجوده في الزمان الخارجي كما أن وجود الظاهر متقدم في الوجود الزماني

فاذا عرفت ذلك فاعلم إن الله سبحانه جعل محمدا وآله صلى الله عليه وآله اوعية رحمته في عالم الاسرار قبل خلق الخلق فلا يصل شي‌ء من رحمته إلى احد من خلقه باستحقاق واستيهال أو بتفضل ابتدائي أو بدعاء احد من الخلق الا من فاضل ما وصل اليهم بواسطتهم وتقديرهم عن الله تعالى وذلك في جميع مراتب الوجود من الدرة إلى الذرة وكان ذلك وكان من ذلك ما وصل إلى ابراهيم وآل ابراهيم هذا حكم الباطن وباطن الباطن واما في الظاهر فلما كان ابراهيم (ع‌) وآله موجودين قبل وجود محمد وآل ‌محمد في الوجود الزماني وقد صلى الله عليهم بتفضل منه واستحقاق منهم وبدعاء الداعين لهم من الملائكة والانس والجن وغيرهم بأن وصلهم من فاضل رحمته وكان ذلك بواسطة محمد واهل بيته عليه وعليهم السلام حتى ظهرت فيهم آثار رحمته في احوال دنياهم وآخرتهم فقال سبحانه في حقهم رحمت الله وبركاته عليكم اهل البيت انه حميد مجيد ودلت على ذلك الكتب السماوية فلما ظهر محمد واهل بيته صلى الله عليه وعليهم اجمعين علمهم ان يعلموا عباده ما فيه نجاحهم ونجاتهم من الصلوة الكاملة على محمد وآله صلى الله عليه وآله بأن يقولوا اللهم صل على محمد وآل ‌محمد كما صليت على ابراهيم وآل ابراهيم ومعناه على نحو ما تقدم يعني اللهم صل على محمد وآل ‌محمد الذين جعلتهم اوعية صلاتك ورحمتك وبركاتك وسبيل نعمك إلى جميع خلقك الذين صليت بفاضل ما جعلت عندهم ووصلتهم به من رحمتك وبواسطتهم على ابراهيم وآل ابراهيم الذين نوهت بهم وباسمائهم في العالمين فكما صليت على ابراهيم وآل ابراهيم حتى جعلتهم بذلك شيعة مخلصين لمحمد واهل بيته الطاهرين وجعلتهم باخلاصهم في التشيع ائمة للعالمين وآتيتهم الدين وهديت بهم الصراط المستقيم فصل على محمد وآل محمد الذين جعلتهم معادن رحمتك وخزان بركاتك وسبيلك إلى عبادك الذين انعمت بهم على ابراهيم وآل ابراهيم وعظمت شأنهم في عبادك وشرفتهم في بلادك بسببهم وبفاضل رحمتك لهم وصلتك اياهم وباخلاصهم في اتباعهم والتمسك بحبلهم

والحاصل المعنى في الترتيب والعلة على نحو ما ذكر في الظاهر إلا ان المراد هنا بالصلوة هي الرحمة التي وصلهم الله بها واعلم ان الله سبحانه لما خلق محمدا وآل ‌محمد جعلهم خزائن رحمته ونعمه بحيث لا يصل منه شي‌ء من ايجاد أو ارفاد (خ‌) أو سبب أو غير ذلك من جميع ما اوجده أو يوجده إلى احد من جميع خلقه من الانس والجن والملائكة وجميع الحيوانات والنباتات والجمادات والاحوال والصفات والرقائق والذرات والاطوار والخطرات والنسب والاضافات وغير ذلك الا بواسطة محمد واهل بيته عليه وعليهم السلام وكذلك لا يصل إلى الله شي‌ء من جميع الموجودات الا بواسطتهم فهم الوسائط بين الله وبين خلقه في كل حال واعلى المخلوقات بعدهم اولوا العزم نوح وابراهيم وموسى وعيسى على محمد وآله وعليهم السلام خلقهم الله من شعاع انوارهم وفاضل طينتهم ونسبة ذلك الشعاع الذي خلقت منه انوار أولي العزم وحقائقهم إلى انوار محمد واهل بيته (ص‌) كنسبة واحد إلى سبعين هذا في الرتبة واصل العنصر واما في الاحاطة فنور الواحد من اولي العزم نسبته إلى واحد من السبعين الذين هم انوار محمد وآله صلى الله عليه وعليهم كنسبة واحد إلى مائة الف وهذا تمثيل والا فالحقيقة نور الواحد من اولي العزم نسبته إلى انوار محمد وآله (ص‌) كنسبة سم الابرة إلى عالم السموات والارض فعلى هذا يكون المعنى فكما صليت على من هم بمنزلة سم الابرة من نور عظمتك التي ملأت السموات والارض واركان كل شي‌ء ونوهت بهم في العالمين وشرفتهم ورفعت شأنهم بين عبادك اجمعين فصل على من هم مجموع انوار عظمتك وحملة جلال سلطنتك واوعية علمك وقدرتك ونوه بهم في الاولين والاخرين وعلى هذه الاشارة فقس كل شي‌ء ولما كان الوجود الزماني سابقا على الوجود الجبروتي والملكوتي في الظهور في الزمان وكان وجود ابراهيم وآله عليهم السلام سابقا على وجود محمد وآله عليه وعليهم السلام وقد اثنى الله سبحانه علي ابراهيم وآله في الوجود الزماني قبل ان يوجد محمد وآله صلى الله عليه وعليهم حسن ان يرتب الوجود اللاحق على الوجود السابق لا في قوة الصلوة وضعفها ولا في شرفها وسبقها ولا غير ذلك بل لما قلنا فافهم الجواب وتدبر الخطاب راشدا

قال ايده الله تعالى : وان يفيد ايضا ان الله تبارك وتعالى لم خص الانسان بارسال الرسل اليهم وانزال الكتب عليهم ولم ‌يتركوا وانفسهم حتى يتحركوا بحسب طبايعهم كما هو سنته في سائر المخلوقات
اقول انما ارسل الرسل إلى الانسان لان الانسان كان جامعا لطباع الملائكة وطباع الشياطين وطباع سائر الحيوانات وطباع سائر الخلق حتى الجمادات والمعادن والنباتات وكان الانسان اكرم خليقته عليه كما سمعت سابقا وانما خلقه جامعا لطباع جميع خلقه ليكون جامعا لكل شي‌ء فاذا اطاعه مع ما فيه من كثرة الطبائع المختلفة بلغه اشرف الدرجات وان عصاه وآثر هواه على طاعة مولاه ابعده من رحمته واقصاه ولما كان انما خلقه كذلك لاسعاده لا لابعاده جعل له عقلا يهديه إلى ما يحب الله ولاجل لطفه به ومحبته عليه ارسل اليه الرسل والمنذرين والهداة ليبينوا له ما خفي عليه ويوضحوا له ما اشبه عليه وليقووه على ما عجز عنه عقله أو اشتبه عليه اقامة للحجة وايضاحا للمحجة ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة ولو تركه ونفسه لغلبت نفسه عقله فلم‌ يتحرك إلى الله لكثرة ما فيه من الطباع المختلفة مع ان عقله انما اتاه بعد بلوغه وقد تمكنت فيه الشهوات والطبائع المختلفات فلأجل ذلك اسبغ نعمه ظاهرة وهم الرسل وباطنة وهم العقول فاذا تقرر هذا قلنا انه سبحانه لم ‌يخص الانسان بذلك بل جميع خلقه ارسل اليهم النذر والرسل قال الله تعالى : وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم ما فرطنا في الكتاب من شي‌ء ثم إلى ربهم يحشرون واذا ثبت ان كل شي‌ء امم امثالنا قال الله تعالى : وإن من أمة إلا خلا فيها نذير فما من امة الا واتتهم الرسل تترى وهي سنته في سائر المخلوقات إلى الله تعالى الا بمعونة من الله بواسطة هاد اليه وداع من قبله يدعو اليه

قال ايده الله تعالى : وقد ورد في كثير من الاخبار ان الله تعالى اوحى إلى انبيائه عليهم السلام ان النبي المبعوث في آخر الزمان صاحب الناقة الحمراء فما تلك الناقة وما حمرتها
اقول اعلم ان الناقة الحمراء هي احسن النوق في نفسها وفي لونها ولهذا يقال خير لي من حمر النعم يريدون به النوق الحمر وكان صلى الله عليه وآله يحب ركوبها ليطابق الظاهر الباطن فانه كما كانت الناقة الحمراء تحمله وانها تأدبت بآدابه حتى انها ليلة عقبة‌ هرشا لما دحرج المنافقون الدباب بين قوائمها نفرت وكادت ترمي رسول الله (ص‌) فقال لها اسكني يا مباركة فليس عليك بأس كذلك كانت طبيعته الكلية التي اشير اليها بالحجاب الاحمر لان نور الطبيعة احمر احمرت منه الحمرة وهو احد انوار العرش وانما كان احمر لاجتماع نور العقل الابيض ونور الروح الاصفر فيها وامتزجا بالانحلال والاصفر والابيض اذا امتزجا بالانحلال كان عنهما الاحمر الاحمر ألا ترى انك اذا اخذت الكبريت الاصفر والزيبق الابيض ثلثا وثلثين من الكبريت ووضعتهما على النار المعتدلة كان منهما الزنجفر وكانت طبيعته التي هي الناقة المعنوية تحمله وكان اذا فعل المنافقون به بعض افعالهم القبيحة نفرت طبيعته حتى يكاد يقتلهم ثم يتركهم ولهذا قال (ص‌) لما كتبوا الصحيفة ودفنوها في الكعبة قال (ص‌) : ولقد اصبح نفر من اصحابي ما هم بدون مشركي قريش حيث كتبوا صحيفتهم ودفنوها في الكعبة ولولا كراهة ان تقول الناس دعا قوما إلى دينه فاجابوه فلما ظفر بعدوه قتلهم لقدمتهم وضربت اعناقهم ولكن دعهم فان الله لهم بالمرصاد وامثال ذلك فكان الظاهر طبق الباطن فافهم وفقك الله لخير الدنيا والاخرة

قال حفظه الله تعالى : وان يفيد ويبين المراد من التقوى التي يوصى بها في كلام مولانا ومقتدانا صلوات الله عليه من قوله : أوصيكم بتقوى الله ولم حصر الله قبول الاعمال بها في قوله : إنما يتقبل الله من المتقين اللهم اجعلنا من المتقين واجعلها زادنا ليوم الدين انتهى كلامه اعلى الله مقامه
واقول أن التقوى التي يوصون بها عليهم السلام لها ثلاث مراتب :
۱) أحديها تقوى الله فيما يتعلق بذاته وصفاته وافعاله ألا تشرك به احدا في ذلك ولا تصفه بغير ما وصف به نفسه ولا تظن به الا الظن الحسن فانه عند ظن عبده به ان خيرا فخير وان شرا فشر ولا تكره شيئا من قضائه وأن تعتقد ان الصالح فيما يقدره ويجريه وان لم ‌تحبه النفس لانها امارة بالسوء وامثال ذلك وتعلم انه مطلع على السرائر ووساوس الصدور فتتجنب كل ما يكره فهذه تقوى الله بالنسبة إلى ما يكون له منك

۲) والثانية تقوى النفس بأن توقفها على حدود الله ولا ترخصها في معاصي الله ولا تحرمها حظها وسعادتها من طاعة الله وتوقفها بالمجاهدة على الفريضة العادلة التي لا افراط ولا تفريط مثلا تكون شجاعا لا جبانا ولا متهورا وتكون كريما لا بخيلا ولا مبذرا مسرفا وتكون ذكيا لا بليدا ولا مجربزا وهكذا في جميع احوالك تسلك الحالة الوسطى المعتدلة في جميع الشؤن فهذه تقوي النفس فانك اذا فعلت ذلك بها فقد اتقيت الله فيها

۳) والثالثة تقوى العباد في كل ما تكون معهم من اموالهم واعراضهم ودمائهم ونسائهم ومساكنهم ومجالسهم وغير ذلك ليتحقق اسلامك عند الله : فإن المسلم من سلم الناس من يده ولسانه وإلى هذه المراتب اشار سبحانه في كتابه في تعليم عباده المؤمنين طريق الزهد والتقوى

۱) قال تعالى : ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا اذا ما اتقوا وآمنوا وعملوا الصالحات وهو تقوى الله تعالى
۲) ثم اتقوا وآمنوا وهو تقوى النفس
۳) ثم اتقوا واحسنوا وهو تقوى الناس

فالمراد بالتقوى التي يوصيكم عليه السلام بها هي هذه التقوى في هذه المراتب الثلاث وللتقوى معنى باطن وهو انكم تتقون ولاية الغير واياكم والميل اليها فانه عليه السلام يوصيكم بذلك

واما حصر قبول الاعمال فيها فله معنيان :
۱) أحدهما أن التقوى التي لا يقبل العمل إلا بها هي هذه التقوى الباطنية وهي تقوى ولاية الغير فإن من لم ‌يتقها لم ‌تقبل أعماله وإن أتى بأعمال الخلائق نعم قد يناقش ويحاسب على المعاصي ولكن أعماله تقبل ولا يحبط منها شي‌ء

۲) والمعنى الثاني أن القبول للأعمال التي أوجب الله على نفسه للفضل والرحمة فإنما هو مع التقوى في المراتب الثلاث المتقدمة وأما من نقص منها فالله سبحانه أكرم من أن يرد عملا صالحا أتى به محب علي (ع‌) لمعاص وقعت منه ولكن لا يحتم على الله سبحانه ألا له الخلق والأمر بيده الخير وهو على كل شي‌ء قدير ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم


وفرغ من هذه العجالة مؤلفها العبد المسكين احمد بن زين‌الدين بن ابراهيم في البلد المحروسة يزد حرسها الله من حوادث الزمان ليلة الاثنين السابعة من شهر شوال سنة ١٢٢٢ اثنتين وعشرين ومأتين والف من الهجرة النبوية على مهاجرها السلام حامدا مستغفرا مصليا

المصادر
المحتوى