
حسب جوامع الكلم – المجلد الاول
طبع في مطبعة الغدير – البصرة
في شهر ربيع الاخر سنة 1430 هجرية
أما بعد فيقول العبد المسكين أحمد بن زين الدين الإحسائي أنه قد التمس مني من تجب عليّ طاعته وهو جناب سيدنا العالم ومولينا جناب السيد أبي القاسم بن المبرور السيد عباس بن المرحوم السيد معصوم اللاهيجاني جواب مسائل عرضت له وليس لي قدرة على الجواب لما أنا فيه من الأمراض المعاودة والأعراض المراودة ولقد أحببت أن تكون أتت إليّ قبل هذه الأيام التي عرضت لي فيها الألام لأقضي لجنابه من جواب مسائله أقصى المرام إلا أني أشير إلى بعض المطالب اعتمادا على فهمه القويم وإدراكه المستقيم لأن الاقتصار في الجواب بالنسبة إلى حالي الآن هو الميسور وهو لا يسقط بالمعسور وإلى الله ترجع الأمور
قال ايده الله تعالى : شيخنا اريد من جنابكم وكريم بابكم تحقيق الاوعية الثلاثة من السرمد والدهر والزمان
اقول اعلم ان الاوقات بقول مطلق وهو ما يجري على ألسنة كثير من الناس خمسة الازل والسرمد والابد والدهر والزمان
وعند المتكلمين ان الثلاثة الاول اوعية للقديم فالازل هو الاول والابد هو الاخر والسرمد هو ما بينهما وهما طرفاه وهذا باطل لان الاولية اذا غايرت الاخرية كانتا حادثتين وما بينهما وهو السرمد حادث لانه مسبوق بالغير ومتعقب بالغير فيكون الكل حادثا
واما غير المتكلمين فلهم في ذلك احوال واعتبارات لا فائدة في اكثرها
والحق الذي دلت النصوص من اهل الخصوص عليهم السلام ان الازل هو نفس الذات البحت وهو نفس الابد قال امير المؤمنين عليه السلام لم يسبق له حال حالا فيكون اولا قبل ان يكون آخرا ويكون باطنا قبل ان يكون ظاهرا
وفي الدعاء عنهم عليهم السلام : اللهم انت الابد بلا أَمَدٍ
والحاصل الازل والابد شيء واحد بكل اعتبار وهو المعبود الحق عز وجل فلا يدرك للازل والابد معنى غير ذات الحق سبحانه والا لزم تعدد القدماء وهو بالعبارة الظاهرة
وعلى الحقيقة يلزم القول بالمحال لان فرض التعدد او المتعدد انما هو في الممكنات ويستحيل في الوجوب لاستلزام ذلك الحلول والشمول والظرفية
واما السرمد فهو مسبوق بالغير وملحوظ فيه الامتداد والاستمرار وهي صفات الحوادث ولكن لما اريد منه عدم التناهي لا في نفسه ولا الى غيره كان مفارقا للزمان والدهر لانتهائهما الى غيرهما ومبائنا للازل لكونه مسبوقا بغيره والازل ليس مسبوقا بالغير
وقولنا ان السرمد لا ينتهي الى غيره مع انه مسبوق بالغير نريد به ان السرمد هو ظرف المشية وليس قبله شيء من الممكنات ليجوز ان ينتهي اليه ولا يصح ان ينتهي الى الازل لان الحادث لا ينتهي الى القديم وانما ينتهي الى مثله كما قال امير المؤمنين عليه السلام انتهى المخلوق الى مثله والجأه الطلب الى شكله فحيث لم يكن في الامكان قبله غيره كان منتهيا الى نفسه وهو في نفسه غير متناه فصح قولنا انه لا يتناهى في نفسه ولا الى غيره
ومعنى كون ما لا يتناهي في نفسه ولا الى غيره ظرفا للمشية ان المشية انما تعلقت بالامكان الراجح وهو محلها الذي تقومت به تقوم ظهور والامكان غير متناه بل هو ممتد مترام الى غير النهاية ولا يقف الى حد مثلا امكان شيء من الاشياء يجوز له ان يلبس كل صورة بلا نهاية فيكون عقلا ويكون روحا ويكون نفسا ويكون طبيعة ويكون مادة ويكون صورة ويكون جسما ويكون نورا ويكون منيرا ويكون حيوانا وانسانا وملكا ونبيا وشيطانا وسماء وارضا وجنة ونارا وهكذا بلا غاية ونهاية وكل ذلك بالمشية فكان امتدادها في جميع الازمنة والدهور والاجناس والانواع والاصناف والاشخاص وجميع اجزاء الاشياء من كل شيء سرمديا لان الافراد التي يمكن ان تصدر من امكان واحد بلا نهاية مع تباين اوقاتها وامكنتها ورتبها وجهاتها وكمياتها وكيفياتها واوضاعها وكتبها وآجالها ومع تراميها الى غير النهاية وتقدم بعضها على بعض تتعلق بها المشية في آن واحد كما اشارت اليه اخبارهم عليهم السلام في معنى قوله تعالى الرحمن على العرش استوى يعني من كل شيء فليس شيء اقرب اليه من شيء فهذا معنى السرمد بانه الوقت المستمر الذي يكون آنه الواحد يطوي المتعددات مع تباين امكنتها واوقاتها من غير تكثر في انبساطه عليها عند تعلق الفعل بها من جهته ولا تعدد لا معنوي ولا صوري ولا مثالي ولا جسماني وان تكثرت الاشياء وتعددت من جهتها في انفسها عند تعلق الفعل بها وتباينت وتباعدت بخلاف الدهر فانه يتكثر ويتعدد معنويا بما حل فيه من العقول وصوريا بما حل فيه من النفوس وبرزخيا بما لحق ما حل فيه ( بيان لما لحق ) من الاشباح
وبخلاف الزمان فانه يتكثر ويتعدد بما حل فيه تعددا حسيا
وطي السرمد للاشياء المتعددة المتفرقة بطي المشية ولا كيف لذلك لان الكيف من آثاره ولا يجري عليه ما هو اجراه
ثم اعلم ان السرمد وقت الفعل المسمى بالمشية والارادة والابداع والاختراع ومكانه الامكانات الراجحة واما الامكانات الكونية فهي ظهوراتها المتخصصة بالقيودات المشخصة لها وتعيناتها باكوانها وقيودها
والسرمد ايضا وقت للافعال المتعلقة بها الا انه في الرتبة الامكانية وعاء للفعل ولمتعلقه من الامكانات العلمية وتعاقبها فيه سرمدي
واما في الكونية فهو وعاء للفعل يتجنس ويتنوع ويتشخص بتجنس الفعل وتنوعه وتشخصه مبرء في كلها عن الكيف
واما متعلقات هذه الافعال الكونية فوعاؤها الدهر والزمان والبرزخ المؤلف منهما لانه وعاء للفعل نفسه ولما تقوم به الفعل في اصل تحققه فاذا تعلق بشيء من الوجودات المقيدة اختص السرمد بالفعل دون المتعلق الا ان ظرفيته للفعل حينئذ بنسبة ذات الفعل في التجنس والتنوع والتشخص لان تجنس الفعل وتنوعه وتشخصه ليس لاحقا له ولا منسوبا اليه الا باعتبار وقوعه على المكون وتعلقه به والا فهو في نفسه مبرء عن ذلك كله والسرمد محل لا يتقدر الا بتقدر الحال على ان ظرفيته انما هي بالاعتبار لعدم المغايرة بينهما الا بالاعتبار فهو معه على الحال الامكاني الاولي ولهذا كان متعلقات الفعل في الراجح مغايرة له بالقوة وفي المساوي بالفعل لان الوقت والمكان متساويان في النسبة الى الشيء فلا يكون السرمد وعاء لشيء من الاكوان والا لكان من متممات قابليتها
ويلزم منه كون المفعول مركبا من المشية كما يقوله بعض الصوفية وهو قول لضرار كما حكاه الرضا عليه السلام حين قال له سليمن المروزي الارادة هي الانشاء
قال يا سليمان هذا الذي عبتموه على ضرار واصحابه من قولهم ان كل ما خلق الله عز وجل في سماء او ارض او بر او بحر من كلب او خنزير او قرد او انسان او دابة ارادة الله وان ارادة الله تحيى وتموت وتذهب وتأكل وتشرب وتنكح وتلد وتظلم وتفعل الفواحش وتكفر وتشرك فنبرأ منها ونعاديها وهذا حدها ه
اقول اراد سليمان بقوله هي الانشاء انها هي المنشأ يعني المفعولات ومن الضرورة ان الفعل غير المفعول وان كانت هيئة المفعول مشابهة لهيئة تأثير الفعل فيه
والحاصل ان السرمد وقت للفعل ليس قبله شيء ممكن ومثال مثاله وآية آيته ودليل دليله الزمان في الاجسام فاعتبروا يا اولي الابصار الا ان السرمد ملازم للاطلاق كالفعل فاذا تعلق الفعل بالمقيدات المتمايزات المتعاقبات انسلخ مع انسلاخ الفعل عن القيود والتمايز والتعاقب في ذاتهما وبقيت المتعلقات ملزومة للتمايز والتعاقب المعنويين في الجبروت والصوريين في الملكوت والجسمانيين في الملك
وانما كان السرمد ملازما للاطلاق كالفعل لان تغايرهما انما هو بالاعتبار اذ ليس ثم تركيب الا بالاعتبار وما دون ذلك فتركيبه حقيقي سواء كان عقلا ام نفسا ام جسما
واما الدهر فهو وقت للمجردات عن المادة العنصرية والمدة الزمانية سواء كان مجردا عن الصور مطلقا ( تامة كانت ام غيرها ) كالعقول ام عن الصور التامة كالارواح ام غير مجرد كالنفوس وهو قار الذات ظاهرا على نحو قرار ما فيه من المجردات بمعنى ان فيها التعاقب والتمايز والترقي والهبوط في كل من الثلاثة بحسبه الا ان ذلك في العقول معنى ( بحسب المعنى ) وفي الارواح رقيقة وفي النفوس صورة
واما في باطن الامر فهو وما فيه من المجردات يجري فيها ما يجري في الاجسام من التجدد والتقضي حرفا بحرف الا ان ذلك خفي وبطيء لسعة ذلك الوقت وشرفه
والعقول والارواح والنفوس باطن الاجسام ومكانها باطن مكان الاجسام ووقتها اي الدهر باطن وقت الاجسام يعني الزمان والاجسام وامكنتها وازمنتها ظواهر لتلك ومراكب لها لان المصنوعات انما تتقوم بالبواطن والظواهر الا ان ذلك في كل شيء بحسب حاله من العوالم الثلاثة
ولا يقال انه كما كان عالم الجبروت والملكوت مرتبطا بعالم الملك على نحو ما ذكرتم يكون عالم الامر بينه وبين عالم الجبروت هذه النسبة فيكون عالم الامر الذي هو الوجود المطلق باطنا لعالم الجبروت لان هذه النسبة انما كانت بين عوالم المفعولات الثلاثة لاحتياجها الى ذلك فانها لا يستغني بعضها عن بعض كما اشار اليه ابو عبد الله عليه السلام في باب حدوث الاسماء من الكافي قال عليه السلام فاظهر منها ثلاثة اسماء لفاقة الخلق اليها وحجب واحدا منها وهو الاسم المكنون المخزون الخ
فالثلاثة الاسماء التي ظهرت يراد منها الاشارة الى عالم الجبروت وعالم الملكوت وعالم الملك
والاسم المحجوب هو عالم الامر بمعنى ان المحدث لا يتركب منه فلا يظهر الا به لا فيه لان المصنوع لا يتركب من الفعل وان حدث عنه فلاجل الاحتياج في بعض الثلاثة الى بعض تشابهت اوقاتها وامكنتها كما تشابهت ذواتها وان اختلفت في حقائقها بخلاف عالم الفعل اما سمعت ما قدمنا من ان اوقاتها تتمايز بنسبة تمايزها وتمايز متعلقاتها ولم يتمايز وقت الفعل ( وهو السرمد ) بتمايز متعلقاته كما مر
فالزمان امتداد مدة انتقال الجسم الى الامكنة الظاهرة العقلية او مكثه فيها والدهر باطنه وروحه وهو امتداد معنوي لمدد انتقال النطف المجردة الى اماكنها العقلية او مكثها فيها
وامتداد روحاني لمدد انتقال المضغ المجردة الى اماكنها الروحانية او مكثها فيها
وامتداد صوري لمدد انتقال الصور النفسانية المجردة الي اماكنها النفسانية او مكثها فيها
ومعنى مدة انتقال العقول الى اماكنها انها في ترقيها في مراتب ظهورات الافئدة وقربها اليها بالتخلق باخلاقها وتعلمها منها خلع بعض قيودها ومحو بعض اشاراتها تسبح في تلك الافلاك حتى تصل الى اقرب مقام من مقامات الافئدة وتختلف مدد الوصول باختلاف قابليات العقول وفي تنزلها في ظهورها بالارواح الى ان تتحقق المظاهر وتختلف مدد التنزل ايضا كما روي في نور قلب محمد صلى الله عليه وآله حين تنزل الى نور روح علي عليه السلام في ثمانين الف سنة وذلك ما روي جابر بن عبد الله الانصاري في تفسير قوله تعالى كنتم خير امة اخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر قال قال رسول الله صلى الله عليه وآله اول ما خلق الله نوري ابتدعه من نوره واشتقه من جلال عظمته فاقبل يطوف بالقدرة حتى وصل الى جلال العظمة في ثمانين الف سنة ثم سجد لله تعظيما ففتق منه نور علي فكان نوري محيطا بالعظمة ونور علي محيطا بالقدرة
ثم خلق العرش واللوح والشمس وضوء النهار ونور الابصار والعقل والمعرفة وابصار العباد واسماعهم وقلوبهم من نوري الحديث
وكتنزل انوارهم عليهم السلام الى ارواح الانبياء عليهم السلام في الف دهر والى ارواح المؤمنين في الف الف دهر
وكذلك مدة انتقال الارواح في ترقيها الي مراتب ظهورات العقول وفي تنزلاتها في ظهورها بالنفوس
وكذلك مدد انتقال النفوس في ترقيها الى مراتب ظهورات الارواح وفي تنزلاتها بالطبائع
وكذلك مدد انتقال الطبائع في ترقيها الى مراتب ظهور النفوس وفي تنزلاتها بالمواد وجواهر الهباء
وهكذا كل شيء بحسبه في ترقيه وتنزلاته وفي مكثه وكلها مدد الدهر الا ان لطيفه في العقول ومتوسطه في النفوس وكثيفه في جواهر الهباء
وما في الارواح والطبائع من المدد الدهرية برازخ بين اللطائف والكثائف
وانما قلنا في الزمان انه امتداد مدة انتقال الجسم الى الاماكن الظاهرة لان المكان الحقيقي للجسم لا يفارقه لانه من مشخصاته وهو البعد المخلوق الذي شغله الجسم بالحصول فيه ولا يدرك كونه مخلوقا الا بنظر الفؤاد وذلك لان تصوره انما هو لو فرض عدم الجسم كان موضع حجمه فارغا وحينئذ يتوهم كثير انه امر اعتباري ولذا فسروه بانه البعد الموهوم الذي تشغله الاجسام بالحصول فيه
وبعض فسره بانه البعد المجرد الخ يعني موجود ولكنه ليس من عالم الملك وانما هو من عالم الملكوت وهذا كلام ليس على ما ينبغي لانه ان اراد انه قبل حلول الجسم فيه فصحيح ولكنه حينئذ لم ينزل من الملكوت وكذلك الجسم الحال فيه فانه قبل الحلول في المكان والزمان في جوهر الهباء وهو آخر المجردات قبل المثال
وانما نزلا في الملك حين تعلق به مثاله وحل في المكان وحين حل فيه كان الحال والمحل جسمانيين في الملك فسبحان من شقه وشغله بالجسم الحال فيه رأفة به ورحمة له
قال ايده الله : واللوحين المحفوظ ولوح المحو والاثبات
اعلم ان اللوح المحفوظ جوهرة من زمردة خضراء كتب اللٰه فيه بقلم كلمته ما شاء من خلقه وما فيه من النقوش هي آحاد الموجودات فمن المكتوب فيه جواهر ومنه صور ومنه طبائع ومنه مواد ومنه اشباح ومنه اجسام ومنه اعراض كالحركات والالوان والهيئات والنمو والذبول وما اشبه ذلك
واللوح المحفوظ ثلاث طبقات :
الاولى فيها جزئيات الجبروت
والثانية فيها جزئيات الملكوت
والثالثة فيها جزئيات الملك مثلا هو كتاب مسطور فزيد وعمرو حروف فيه والجبل حرف والبحر حرف والبر حرف والهواء حرف والغيم حرف والمطر حرف وكل قطرة حرف وكل شجرة حرف وكل غصن حرف وكل ورقة حرف وهكذا حال جميع افراد الملك من الحركات والهيئات
والامثال حال قيامها بموصوفاتها واما بعد اتصاف موصوفاتها بشيء لا يجامعها تمحا من هذه الطبقة فتغيب عن حواسك الظاهرة وتثبت في الطبقة الثانية التي فوقها من الملكوت فتشاهدها هنالك مكتوبة بشبح مكانها وزمانها
وبيان هذا انك اذا رأيت زيدا في المسجد يوم السبت يصلي فرض الصبح مثلا رأيته هو وعمله في هذا المكان والزمان ببصرك لان الجميع في الملك فاذا انتقل الى حالة اخرى انمحت الحالة الاولى من هذا اللوح الملكي فغابت عن بصرك الى اللوح الملكوتي فتشاهدها بحيالك هنالك يعني ترى مثال زيد في المسجد الملكوتي يوم الجمعة الملكوتي يصلي
فقولنا بشبح مكانها وزمانها نريد انها معلقة بموصوفاتها الملكوتية لان التي تشاهد امثلة ما رأيت بعينك كتبها قلم القدر في اللوح في الطبقة الملكوتية بعد ما سارت عنها الطبقة الملكية لان الزمان سريع التقضي والدهر قار بالنسبة الى تقضي الزمان
ثم اعلم ان هذا اللوح المشار اليه بطبقاته الثلاث منه ما يستحيل محوه ومنه ما يمكن محوه ولا يمحى ومنه ما يمحى
فالاول ما كتب فانه حين كتب يستحيل ألا يكتب وهذه الدفة جف القلم فيها
والثاني ما كتب ويمكن ان يمحى ما كتب ويكتب ضده ولكنه من جهة الحكمة وما حقت عليه الكلمة والكرم الابتدائي لا يمحى ولا يغير وذلك مثل اشقاء السعداء الصالحين المطيعين لله تعالى واسعاد الاشقياء الطالحين العاصين لله تعالى فانه سبحانه قادر على ذلك ولكنه لا يفعله ابدا
والثالث ما يمحو ويغير ويثبت وذلك بما قدر من الاسباب والموانع التي اقتضتها الحكمة الالهية من الابتلاء والاختبار لانتظام التكليف
مثاله ان زيدا يقارف المعصية فتحول بينه وبين المدد الالهي الذي به قوامه وبقاؤه فيتقدر بقاء قواه التي بها حياته خمس سنين فتنظر الملائكة الموكلون به وبقواه فينتقش في نفوسهم انه يعيش خمس سنين وربما تاب زيد وندم على ما عمل فاندك الحجاب الحائل بينه وبين المدد فيقوي اتصال المدد به فيتقدر بقاء قواه خمسين سنة فتنظر تلك الملائكة الموكلون به فينمحي ما كان في نفوسهم قبل وينتقش مكانه في نفوسهم انه يعيش خمسين سنة
ومثاله في المحسوس وهو منه ايضا لو كان جدار مبني من الطين في ارض رخوة فانك اذا تأملت فيه انتقش في ذهنك انه يبقي خمس سنين ثم ينهدم لانه من الطين في ارض مترهلة رخوة ثم بعد حين اتى صاحبه ورجبه بالجص والصخر من امامه وخلفه واحكم بناءه فلما رأيته بعد ذلك انمحى ما في خيالك سابقا وانتقش فيه انه يبقى خمسين سنة مثلا فقد كتب الله سبحانه بما قدر من الموانع في تركيب بنية زيد بمعصيته انه يعيش خمس سنين وكتب في نفوس الملائكة بمشاهدتهم لبنية زيد انه يعيش خمس سنين
وكتب سبحانه في بنية الجدار بتساهل بانيه وواضعه في الارض الرخوة انه يبقى خمس سنين ثم ينهدم وكتب في ذهنك باطلاعك على حال الجدار انه ينهدم بعد خمس سنين
فلما تداركت زيدا رحمة الله عز وجل وتاب وقوي اتصال المدد به كتب الله سبحانه في بنية بذلك السبب المقتضي بتقديره انه يعيش خمسين سنة وكتب في نفوس الملائكة بمشاهدتهم لبنيته انه يعيش خمسين سنة
ولما تلافي صاحب الجدار ما قصر في بنائه كتب سبحانه بما قدر من السبب المقتضي لذلك انه يبقي الجدار خمسين سنة وكتب في نفسك بما شاهدت من احكام بناء الجدار انه يبقى خمسين سنة فقد محا سبحانه ما اثبت في بنية زيد وبنية الجدار بما لحقهما من موانع البقاء وما اثبت في نفوس الملائكة ونفسك بما شاهدتما من لوازم الموانع واثبت بما قدر من الاسباب في بنية زيد وبنية الجدار بقاء الخمسين سنة واثبت ذلك في نفوس الملئكة ونفسك بما اوقفكما عليه فبنية زيد وبنية الجدار ونفوس الملئكة ونفسك في الحالة الاولى الواح المحو وفي الحالة الثانية الواح الاثبات فهذا من ذلك فافهم
قال ايده الله : والقضاء والقدر وعالم الذر وما يلايمه من الكلام في الشقاوة والسعادة الاصليين وان الثانية كيف تلايم مقام التكليف وما يترتب عليه من العذاب
اعلم ان القضاء والقدر في اصطلاح القوم غير ما اصطلح عليه انا لان القضاء عندهم سابق على القدر وهو عبارة عن وجود جميع الموجودات في العالم العقلي مجتمعة مجملة على سبيل الابداع والقدر عبارة عن وجودها في المواد الخارجية مفصلا واحدا بعد واحد وربما جعل بعضهم القضاء من احكام الوجوب فقال القضاء علمه المحيط بكيفية المعلومات وقال واشرف صفات الذات هو العلم وهو القضاء والحكم ولهم في ذلك تحدسات وظنونات استنبطوها مما عرفوا من انفسهم وقاسوا بها صفات الحق تعالى عن ذلك علوا كبيرا
واما عندنا فالقدر سابق على القضاء وان القدر هو وضع الحدود والهندسة والقضاء اتمام الصنع ونظمه على ما هو عليه في الوجود الخارجي كما هو طريقة اهل العصمة عليهم السلام ومن الاخبار الجامعة لبيان القدر والقضاء وما قبلهما من المراتب ما رواه في الكافي بسنده قال سئل العالم عليه السلام كيف علم الله
قال : علم وشاء واراد وقدر وقضى وامضى فامضى ما قضى وقضى ما قدر وقدر ما اراد فبعلمه كانت المشية وبمشيته كانت الارادة وبارادته كان التقدير وبتقديره كان القضاء وبقضائه كان الامضاء فالعلم متقدم المشية والمشية ثانية والارادة ثالثة والتقدير واقع على القضاء بالامضاء
فلله تعالى البداء فيما علم متى شاء وفيما اراد لتقدير الاشياء فاذا وقع القضاء بالامضاء فلا بداء
فالعلم بالمعلوم قبل كونه والمشية في المشاء قبل عينه والارادة في المراد قبل قيامه
والتقدير لهذه المعلومات قبل تفصيلها وتوصيلها عيانا ووقتا
والقضاء بالامضاء هو المبرم من المفعولات ذوات الاجسام المدركات بالحواس من ذي لون وريح ووزن وكيل مما دب ودرج من انس وجن وطير وسباع وغير ذلك مما يدرك بالحواس
فلله تعالى فيه البداء مما لا عين له فاذا وقع العين المفهوم المدرك فلا بداء والله يفعل ما يشاء
فبالعلم علم الاشياء قبل كونها وبالمشية عرف صفاتها وحدودها وانشأها قبل اظهارها وبالارادة ميز انفسها في الوانها وصفاتها وبالتقدير قدر اقواتها وعرف اولها واخرها وبالقضاء ابان للناس اماكنها ودلهم عليها
وبالامضاء شرح عللها وابان امرها ذلك تقدير العزيز العليم ه
وحيث اراد سلمه الله بيان القضاء والقدر بطريق غير مخل وتطويل ممل وهذا لايحصل الا بالاشارة لانها هي التي تطوي البعيد والمقام يقتضي بسطا في الكلام الا ان الوقوف على حد مطلبه هو غاية المرام ولنقتصر فيما اردنا على معنى ظاهر هذا الحديث الشريف
فقوله عليه السلام علم وشاء واراد وقدر وقضى وامضى يريد بهذا العلم العلم الامكاني الراجح الوجود وهو امكانات الاشياء وهذا محل المشية الامكانية وهذا هو العلم الذي لا يحيطون بشيء وشاء هذه المشية الكونية المتعلقة بالاكوان اي وجودات الاشياء المتعينة وهذا هو العلم الذي يحيطون به باذنه تعالى
واراد هي الارادة العينية المتعلقة باعيان الاشياء وبها حدثت القوابل وانفعالات الوجودات
وبهذه المشية والارادة تحقق الخلق الاول الذي هو كالمداد للكتابة وكالخشب للسرير والباب وغيرهما
وفي هذا المقام هذه المواد صالحة لان تلبس صور السعادة والشقاوة والقوة والضعف والغني والفقر والعلم والجهل والمعرفة والانكار وسائر الصفات المتضادة وفي هذا المقام كان الناس امة واحدة
وقدر هو وضع الحدود من الكم والكيف والرزق واجل الظهور والبقاء والفناء والمعرفة والانكار والطاعة والمعصية والسعادة والشقاوة وغير ذلك وفي هذا المقام كان الخلق الثاني والتكليف في عالم الذر
ويجري في هذه المراتب الثلاث لله تعالى البداء بالمحو والاثبات والتغيير في الذوات والصفات وفي سائر الحدود المشار اليها
وقضى اتمام ما قدر مما اراد وشاء فيما علم منها وفي هذا المقام يكون الغالب امضاء ما قضاه لقلة عروض الموانع المنافية بعد وقوع القضاء ولهذا ورد اذا قضى امضى
وقد يجري هنا البداء فيقضي ولا يمضي واليه الاشارة بتأويل قوله تعالى الم تر الى ربك كيف مد الظل ولو شاء لجعله ساكنا ثم جعلنا الشمس عليه دليلا ثم قبضناه الينا قبضا يسيرا
وامضى اي اظهر ما قضاه مبين العلل مشروح الاسباب لان كل شيء خلقه انما خلقه مشابها لهيئة مشيته المتعلقة به وهي مظهر الصفات العامة والعجائب الغير المتناهية فيخرج دليلا علي شيء ومدلولا لشيء ومثالا لشيء وله مثال وعلة لشيء ومعلولا لشيء وعلما بشيء ومعلوما لشيء وعرضا لشيء ومعروضا لشيء وهكذا
وقوله فبعلمه كانت المشية يعني ان هذا العلم الامكاني والمشية هي الكونية ولا تتعلق الا بامكان لتكسوه حلة الظهور الكوني الخارجي
وقوله وبمشيته كانت الارادة يعني ان الارادة انما تتعلق بعين الكون والكون من المشية
وقوله وبارادته كان التقدير يعني به ان التقدير انما يكون في الاعيان اي المواد التامة وهي انما يكون بالارادة
وقوله وبتقديره كان القضاء يعني ان القضاء انما يتعلق بالاشياء بعد تقديرها
وقوله وبقضائه كان الامضاء لانه تعالى انما يمضي اي يظهر ويأذن للمفعول بالخروج بعد اتمامه وقضائه
وقوله فالعلم متقدم المشية يراد به العلم الامكاني الحادث يعني المشية الامكانية ومتعلقها من الامكانات الراجحة الوجود
وقوله والمشية ثانية المراد بها المشية الكونية المتعلقة بالاكوان المقيدة وكونها ثانية للعلم والارادة ثالثة دليل على ارادة العلم الحادث لدخوله في جملة المعدودات
وقوله والتقدير واقع على القضاء بالامضاء يشير الى ان التقدير في المادة ايجاد اسباب القضاء من المتممات للماهية خصوصا الثانية
وقوله فلله تعالى البداء الى قوله : فلا بداء يشير الى ان له تعالى فيما يريد قضاءه قبل ان يقضيه في جميع مراتب ما ذكره به قبل القضاء البداء في محوه وتغييره وتبديله فاذا قضاه وامضاه فلا بداء له فيما قضى وامضى وله تعالى المحو والتغيير والتبديل في المقضي كيف شاء متى شاء
وقوله فالعلم بالمعلوم قبل كونه يعني في امكانه
وقوله والمشية في المشاء قبل عينه يعني في كونه
وقوله والارادة في المراد قبل قيامه يعني في عينه التي هي ماهيته النوعية قيل ( قبل ظ ) قيامه بشيء من مشخصاته
وقوله والتقدير لهذه المعلومات قبل تفصيلها وتوصيلها عيانا ووقتا يعني انها قبل التفصيل المربوط بالتوصيل في الخارج والوقت معلومات اي انها انما تتمايز قبل التقدير في العلم المسمي بنون في قوله تعالى ن والقلم وما يسطرون فهي كالحروف في المداد وكالسرير والباب والصنم في الخشب قبل التفصيل المربوط بالتوصيل نعم التقدير في التفصيل قبل التوصيل واما التفصيل مع التوصيل فهو القضاء فلذا قال قبل تفصيلها وتوصيلها عيا ( عيانا ظ ) ووقتا الذي هو مقام القضاء
وقوله والقضاء بالامضاء هو المبرم من المفعولات الى قوله: مما يدرك بالحواس يشير فيه الى ان القضاء قبل الامضاء قد تقتضي الحكمة تعلق البداء به من محو وتغيير وتبديل وان كان نادر الوقوع بالنسبة الى عدم التعلق لملازمة الامضاء له غالبا والى هذا اشار عليه السلام قبل بقوله فاذا وقع القضاء بالامضاء فلا بداء يعني انه قبل ارتباط الامضاء به قد يقع ويتعلق به البداء
ويحتمل انه اذا كان القضاء خيرا وسعادة وطاعة لا يتعلق به البداء وان كان قبل الامضاء كما تشير اليه بعض الاخبار بخلاف ما لو كان المقضي شرا وشقاوة ومعصية فانه قبل الامضاء يكون فيه البداء
وقوله فاذا وقع العين المفهوم المدرك فلا بداء والله يفعل ما يشاء يراد منه انه اذا وقع المقضى في خارج الوجود وظاهره فلا بداء وقبل ان يكون مفهوما مدركا يجوز فيه البداء بالا يكون مفهوما مدركا بمحوه او تغييره او تبديله او بان ينقص من اجل بقائه في الوجود قبل ان يقدره او بعده لان كل اسباب البقاء والوجود نعمه لا تخرج عن قبضته بعد الاعطاء كما هي قبل الاعطاء يعطي ما يشاء منها من يشاء كما يشاء ويمنع منها ما يشاء من يشاء كما يشاء
وقوله والله يفعل ما يشاء اشار فيه الى نحو هذا والى ما يستقبل من احوال المقضى
وقوله فبالعلم علم الاشياء قبل كونها بامكاناتها الراجحة اللازمة لها التي لا تفارقها منذ امكنها مخترعها
وقوله بالمشية عرف صفاتها وحدودها وانشاءها قبل اظهارها اي صفات اكوانها من كم وكيف وحدود اكوانها من رتبة وجهة وانشاء اكوانها من مكان ووقت
وقوله وبالارادة ميز انفسها في الوانها وصفاتها اي ميز اعيانها في نورها وظلمتها وصفات اعيانها في اقبال قبولها وادباره
وقوله بالتقدير قدر اقواتها وعرف اولها وآخرها اي قدر آجالها وارزاقها وقابلياتها ومقبولاتها واجاباتها وانكاراتها وطاعاتها ومعاصيها وجميع اسبابها ومسبباتها وعرف اول اعمالها واحوالها واقوالها واواخرها واول ظهورها وبطونها وآخرهما
وقوله وبالقضاء ابان للناس اماكنها ودلهم عليها اي ابان محال ظهورها كالانسان في فوق الارض والحوت في البحر والسحاب في الهواء والنجوم في السماء والاضواء في الكثيف والصور في المرايا وفي الماء وهكذا ودلهم عليها بالعقول والنفوس والاسماع والابصار والالفاظ والاشارات والاضواء والالوان والمقادير وما اشبه ذلك
وقوله وبالامضاء شرح عللها وابان امرها يعني شرح عللها فجعل كل فرد منها دليلا ومدلولا عليه وعلما بشيء ومعلوما به وهكذا وشرح هيئة التركيب ومراتب الصنع كما قال تعالى يا ايها الناس ان كنتم في ريب من البعث فانا خلقناكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة مخلقة وغير مخلقة لنبين لكم وهذا من شرح العلل وانما خلقها كذلك لئلا يتوهم من الناس انها غير مصنوعة فشرح لهم كثيرا من الادلة منها انه خلق الانسان في اطوار على التدريج كما في الاية المذكورة ذلك تقدير العزيز العليم
واما قوله وعالم الذر وما يلائمه من الكلام في الشقاوة والسعادة الاصليين فاعلم انه انما تم الخلق الاول الذي هو من المشية والارادة المعبر عنه بالكون والعين الذي هو الهيولي للخلق الثاني كالخشب لما يعمل منه من السرير والباب والصنم وغير ذلك بالتكليف الاجمالي المتوجه الى المكلفين على الوجه الكلي وقبوله كمقبوله وذلك كالصلوح الكلي في نوع الخشب من كل جزء منه للسرير والباب والصنم والسفينة وما اشبه ذلك فخرجوا في الوجود العيني بالتكليف الكلي الاجمالي متمايزين في ظواهرهم بالمشخصات الكونية متفقين على الصلوح النوعي فنثرهم تعالى بيد كلمته بين يدي قدرهٖ حين اخبر عنهم في كتابه العزيز بقوله كان الناس امة واحدة يعني في الاجابة النوعية الاجمالية فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وكان تعالى قد نثر النبيين قبل هذا المشهد في المشهد الثاني بالف دهر وارسل اليهم محمدا صلى الله عليه وآله وعليهم فقرأ عليهم ما اوحى اليه ربه في المشهد الاول الذي هو قبل مشهدهم بالف دهر فقال لهم الله سبحانه على لسان محمد نبيه صلى الله عليه وآله الست بربكم ومحمد نبيكم وعلى والائمة من ذريته اولياؤكم وائمتكم
فقالوا بلى
فبعثهم عليهم السلام بما عهد اليهم على لسان نبيه محمد صلى الله عليه وآله الى الناس وكان الناس كما ذكرنا اولا قد عرض عليهم التكليف الاجمالي وهو ما اعطوه من العهد من انفسهم ان يطيعوه ولم يفصل لهم في هذا المقام خصوصات طاعاته حين اخذ هذا العهد بل طلب منهم مطلق الطاعة فاعطوه من انفسهم ذلك متفقين في الاجابة المطلقة مختلفين في الطوية وذلك لان اخذ العهد منهم لله كان على السنة اوليائه عليهم السلام ولم يذكروا لهم اسباب طاعتهم لله تعالى ووسائطها ولا خصوص شيء منها فاجابوا التكليف المطلق بالاجابة المطلقة وانطوى بعض منهم على انه تعالى ان اتخذ في ذلك وسائط من غيرهم واسبابا من دونهم لم يقبلوا فكانوا بالاجابة المجملة المطلقة متساوين فلما بعث سبحانه النبيين مبشرين ومنذرين بما عهد اليهم الى الناس في المشهد الثالث باخذ العهد لله سبحانه بالتكليف التفصيلي وخصوص كل طاعة وجب فيها ذكر شرائطها واسباب قبولها ووسائطها فقال من انطوى على الخلاف انما لم نعاهد ربنا الا على طاعته من غير شرائط ووسائط وليس غيرنا الا مثلنا فقالت لهم رسلهم ان الله سبحانه لم يكلفكم الا بواسطة ولم يخاطبكم بذاته وقبلتم ذلك لعجزكم عن التلقي عنه بدون الواسطة فكيف تقدرون على طاعته بدون الواسطة لان ما لا يوافق محبته ورضاه لا يصلح ان يكون طاعة له ولا يعلم محبته ورضاه الا من يقدر على التلقي منه
قالوا اذا اطعناه بما وقفنا عليه الواسطة ولم يقبل غير ذلك كان الواسطة وليا علينا
قالت رسلهم لذلك خلقكم وبه اقامكم
قالوا لا نطيع امره بواسطة بل نريد طاعته بغير واسطة فنكثوا ما عاهدوا الله عليه وهو تأويل قوله تعالى وجعلنا بينهم وبين القرى التي باركنا فيها قرى ظاهرة وقدرنا فيها السير سيروا فيها ليالي واياما آمنين فقالوا ربنا باعد بين اسفارنا وظلموا انفسهم فجعلناهم احاديث ومزقناهم كل ممزق
وبالعبارة الظاهرة انه سبحانه جعل فيهم الاختيار وهو الصلوح لفعل الشيء وضده وندبهم الى ما فيه نجاتهم من غضبه وفوزهم برضاه فاجاب من خلق للاجابة باجابته وانكر من خلق للانكار بانكاره وعدم قبوله وكان ما كان من الفريقين عن اختيارهم وعلمهم بعاقبة ما هم عاملون ولذلك جعل فيهم الاختيار والتمكين من فعل الشيء وضده والتمكن بما جعل فيهم من الارادة الصالحة والالات الصالحة لكلي الطرفين
وانما مكنهم من خلاف امره ليعملوا بامره مختارين اذ من لم يقدر على المعصية لم يقدر على الطاعة لان شرط الطاعة ان يفعل ما امر به مع قدرته على تركه ليكون فعله طاعة
وقوله سلمه الله : في السعادة والشقاوة الاصليين ، بيانه في اصليتهما انه تعالى خلق الوجود وهو مادة الشيء النورية ولا بد لها في تقومها من ضد تستند اليه ويستند اليها فخلق لذلك الماهية الظلمانية وهي صورة الوجود اي انفعاله ونعني به انه لما خلقه الله انخلق فالمحدث الوجود وانحداثه الماهية فكل مخلوق لا بد له من اعتبارين اعتبار من خالقه واعتبار من نفسه
فالاول وجوده ومادته خلقها لا من شيء
والثاني ماهيته وصورته خلقها من نفس وجوده كما تفهم من قولك خلقه فانخلق فان انخلق صورة ما احدثه الله سبحانه فكان هذان محدثين وكل محدث يحتاج في بقائه الى المدد فالفاعل سبحانه يمده من نوعه كما يمد الطين من الطين والماء من الماء والهواء من الهواء فلكل ميل الى نوع مدده فللوجود الذي هو نور ميل الى المدد من نوعه الذي هو النور وهو الطاعات وانواع الخيرات
وللماهية التي هي ظلمة ميل الى المدد من نوعها الذي هو الظلمة وهو المعاصي وانواع الشرور وقيام كل منهما بمدده كقيام الصورة في المرءاة بمقابلة الشاخص لكن لما كانا منضمين اكتفى احدهما بمدد الاخر في مطلق البقاء المتحقق بادنى صدق الاسم عليه في اصل ذاتيته بمعنى عدم ارتفاعه حقيقته اصلا مع وجود مدد ضده في حال انضمامهما لا بمعنى بقائه في رتبته من القرب او البعد وذلك لانه لما كان معتمدا ومستندا الى ضده المستمد حصل له مسمى بقائه بالاستناد الى المستمد مثلا اذا كانا منضمين ظهر زيد ولا بد لبقاء زيد من بقائهما ولا بد لبقائهما من المدد من احدهما او من كل منهما على التعاقب لا غير لان الاستمداد من كل منهما في حال واحد يلزم منه فناؤهما فاذا استمد وجود زيد من النور بتوفيق الله سبحانه من الاعمال الصالحات قوي وتماسكت ماهيته باستنادها اليه الا انها تكون مقهورة تحت سلطنته فلا تكاد تميل الى شيء من نوعها فحينئذ تكون مطمئنة وراضية ومرضية وكاملة وينقلب لونها من السواد والظلمة الى الزرقة السماوية واذا استمدت ماهيته من الظلمة بخذلان الله عز وجل من المعاصي قويت وتماسك وجوده باستناده اليها الا انه يكون مقهورا تحت سلطنتها فلاتكاد يميل الى شيء من الخير فحينئذ يكون ظالما جهولا ومجرما واناثا وشيطانا مريدا لعنه الله
ففي صورة استمداد الوجود قربت الماهية من رتبتها البعيدة فكانت اختا للوجود فان تابوا واقاموا الصلوة وآتوا الزكوة فاخوانكم في الدين الا ان حقيقتها لمترتفع اصلا وفي صورة استمداد الماهية بعد الوجود من رتبته القريبة ومن يتولهم منكم فانه منهم ان الله لا يهدي القوم الظالمين فلمثل ما اشرنا اليه كانت السعادة والشقاوة اصليين وذلك باعمالهم وما تجزون الا ما كنتم تعملون
واما قوله سلمه الله : وان الثانية كيف تلايم مقام التكليف وما يترتب عليه من العذاب
فيريد منه ان الشقاوة والسعادة اذا كانا اصليين كيف يلائم اثباتهما مقام التكليف الخ
وبيانه ما اشرنا اليه ان الاصالة المذكورة محدثة بفعل المكلف الاختياري وانما سميا باصليين لانهما مشخصات المكلف ومميزاته عن غيره فهما حدود صورته الشخصية وهي مع حدوثها عن فعله وصدورها عن قابليته جزء ماهيته لان ماهيته لا تتقوم بحصة مادته من نوعه الا بها كالسرير فان الهيئة الشخصية جزء ماهيته التي يفارق بها الباب والسفينة ويغايرهما حقيقة مع ان حدوثها عن قابليته التي هي الصلوح المشار اليه سابقا فانه هو الاختيار في حقه ولا حقيقة للسرير معقولة ولا محسوسة الا بهذه الصورة الشخصية لانها جزء ماهيته حقيقة وقبل تعلق هذه الصورة بحصة السرير من الخشب لم يكن للسرير وجود متعين الا في العلم خاصة وهذا آية حكم المكلف في تشخصه في التكليف في عالم الذر بالشقاوة والسعادة فهما فيه اصليتان لانهما جزء ماهيته وهذا لا ينافي مقام التكليف وما يترتب عليه من الثواب والعقاب لان هذه الماهية التي لا تتحقق شيئية الشيء الا بها انما حدثت بقابليته فوجود القابلية والماهية التي هي جزء شيئية الشيء وشيئيته متساوقتان في الظهور في الاعيان وحدوث ذلك كله باختيار الشيء لان تحقق الاختيار فيها مساوق في وجوده لوجودها فاذا ثبت ان الصورة الشخصية جزء الماهية وان كل واحد من القابل والمقبول حدث بالاختيار وكل ذلك متساوق ثبت ان المكلفين فاعلون لاعمالهم من طاعة ومعصية فلا يكون منافيا لمقام التكليف وما يترتب عليه من الثواب والعقاب لان المنافاة انما تكون لو كانت الماهيات غير مجعولة او مجعولة بغير اختيار المكلف او باختياره ولم ييسر للموافاة لو ارادها فيلزم من الاول طلب المحال او تحصيل الحاصل لعدم جواز انقلاب الحقائق وتعذر ايجاد الموجود
ومن الثاني الجبر المنافي للعدل والحكمة ومن الثالث ابطال الكرم ومنع المتفضل فضله بل كانت مجعولة باختياره مشفوعة باللطف والرحمة
قال سلمه الله : وتحقيق البداء والاجلين المحتوم وغيره
اقول اما البداء فقد تقدم ما يبين كيفية ظهوره وسبب تعلقه
واما الاشارة الى مصدره القريب من الكيفية فاعلم ان الحكمة في الايجاد معرفة الموجد وفائدة المعرفة ابلاغهم جلائل النعم واطلاعهم على عظائم مراتب الجود والكرم فخلق الخلق ليغمرهم بجزيل نعمائه ويعرفهم عظيم كرمه وآلائه فاقتضت هذه الغاية ايجاد الخلق على اكمل النظام فيكون اثبات ما لم يكن ومحو ما كان ثابتا وايجاد ما لم يوجد وابقاء ما وجد على حسب ما يؤدي الى ابلغ مصلحة تتصور في حق الخلق فمنها ما تقتضي المصلحة بقاءه بقدر ما كتب له من الاجل ومنها ما تقتضي تغييره او محوه او اثباته
ومنها ما تقتضي ابقاءه ازيد مما كتب له من الاجل فيمحى ما كتب اولا ويزيد في خلقه ما يشاء وفي كل ذلك صلاح لعامة النظام ولخصوص ما غير بزيادة او نقيصة او ابقى على ما ظهر به في الوجود فامرض الصحيح لمصلحته ولمصلحة النظام واصح المريض كذلك واغنى الفقير وافقر الغني واحيى الميت وامات الحي كل ذلك لما اراد بهم من الخيرات والنعم العظام ابلاء بنعمه واظهارا لكرمه ليجزي الذين اساؤا بما عملوا ويجزي الذين احسنوا بالحسنى
وقد ورد عنه صلى الله عليه وآله لو كشف لكم الغطاء لما اخترتم الا الواقع او كما قال ومع ذلك فهي آجال تتقضى ومدد تتصرم ظهر سر الخليقة على هيئة الحقيقة وهيئة الحقيقة على تأثير الحق عز وجل وتأثير الحق سبحانه بعلمه يعني ان ما سمعت مما اشرنا اليه وما لم تسمع انما ظهر مثالا ودليلا حاكيا بهيئته هيئة الحقيقة يعني هيئة فعل الله تعالى وفعل الله تعالى انما ظهر على هيئة نفسه التي هي تأثير الله تعالى وتأثير الله سبحانه انما اظهره الله واحدثه على هيئة نفسه بعلمه تعالى وهذا سر الخليقة وتطوراتها في اطوارها باوطارها وهذا العلم المشار اليه هو العلم الاشراقي الذي يسمونه عليهم السلام بوقوع العلم على المعلوم وهو العلم الراجح الوجود وهو ظهور العلم الذاتي به وذلك الظهور هو سر الاسرار الجارية على هياكله الاقدار وقوله والاجلين المحتوم وغيره ، بيانه ان المحتوم هو حد التقدير لمدة البقاء المقدر وهو خلق من خلق الله وحجر محجور يحدثه الله بدواعي سر الخليقة المشار اليه قبل وبيان هذا البيان ان الفيض الابتداعي الذي ملأ العمق الاكبر ليس له انقطاع ولا انتهاء فاذا وجد به القابل له استمر انبساطه على القابل وهذا الاستمرار هو علة البقاء والدوام حتى ينزل الحجاب والحجر المحجور كاشراق الشمس ما دامت موجودة وهي مقابلة للجدار فان الاستضاءة ابدا باقية ما استمرت المقابلة فاذا اقتضت المصلحة عدم الاستضاءة بسر الخليقة احدث حجابا حائلا بينها وبين الجدار وهذا الحجاب انما احدثه حين اراد رفع الاستضاءة وكان هذا الحجاب غائبا في الامكان الراجح لم يحضر فاذا اريد الرفع دعى فجاء فاذا جاء لا يستأخر الاستضاءة ساعة ولاتستقدم فهذا الحجر المحجور والحجاب المستور هو الاجل المحتوم المذكور كان غائبا في الامكان فان اقتضت المصلحة حضوره دعى فجاء وان اقتضت تأخيره لم تدع وهو الاجل المقضي الذي يزيد وينقص ومعنى انه يدعي انه يكون من خزانة الامكان الراجح فافهم
قال سلمه الله : وسر اربعية الاركان لعرش الرحمن وحال حملتها الاربعة وسر انهم يومئذ يصيرون ثمانية كلها بطريق التوسط من غير ايجاز مخل ولا اطناب ممل انتهى كلامه اعلى الله مقامه
اقول اما سر اربعية الاركان لعرش الرحمن فلان الوجود الذي يمكن حصره بالاجمال اربعة اقسام وعليها يدور النظام من الايجادات والاحكام وهي الخلق والرزق والموت والحيوة واليه الاشارة بقوله تعالى الله الذي خلقكم ثم رزقكم ثم يميتكم ثم يحييكم هل من شركائكم من يفعل من ذلكم من شيء سبحانه وتعالى عما يشركون فتحدى عباده المنادين له بشيء من ذلك ولو كان شيء خامس لجاز ان يقال اذا لم يجز ان تفعل الشركاء شيئا من هذه الاربعة جاز ان تفعل من غيرها وتصدق به الشركة
وانما قلنا الوجود الذي يمكن حصره بالاجمال لان حصره بالتفصيل ان كان بالامكان لزم الانقطاع وهو ليس بمنقطع في الامكان ولا محدود فيه وان كان في الامكان لان الامكان غير متناه في الامكان واليه الاشارة بقوله تعالى خالدين فيها ما دامت السموات والارض الا ما شاء ربك عطاء غير مجذوذ وقال تعالى وفاكهة كثيرة لا مقطوعة ولا ممنوعة
وقولنا الذي يمكن حصره احترازا عن الوجود الحق تعالى لان هذه الاربعة المشتملة على جميع وجودات الامكان بعض مظاهر الحق فان الحيوة الذاتية والعلم الذاتي والقدرة والبقاء والسمع والبصر الذاتيات وغير ذلك من الصفات الذاتية والعنايات الالهية لا تدخل في معنى يمكن الا مظاهرها الفعلية
والحاصل انه لما انحصرت وجودات الامكان في الاربعة وكانت مبادي ايجاداتها داخلة في الصفة الرحمانية ظهر الرحمن بهذه الصفة على جامع حواملها الذي يسع تلك الايجادات وهو العرش وهو عبارة عن اربعة ملائكة اي مسمين في الجملة بهذا الاسم وهم في الحقيقة خلق اعظم من الملئكة ولهم اسماء كثيرة في كلام الائمة عليهم السلام وفي كلام العلماء والحكماء
ففي كلام سيد الساجدين عليه السلام ان العرش مركب من اربعة انوار نور منه احمرت الحمرة ونور اصفر منه اصفرت الصفرة ونور اخضر منه اخضرت الخضرة ونور ابيض منه البياض ومنه ضوء النهار او كما قال
والمراد من النور الاحمر هو الملك الذي على ملائكة الحجب ومنه مظهر الخلق والمتلقي عنه جبرءيل وهو ركن العرش الاسفل الايسر وهو المسمى بالطبيعة الكلية
والنور الاصفر هو الملك الذي هو روح من امر الله ومنه مظهر الحيوة والمتلقي عنه اسرافيل وهو ركن العرش الاسفل الايمن وهو المسمى بالروح في قوله صلى الله عليه وآله اول ما خلق الله روحي وبعض العرفاء يسميه بالبراق بناء على طريقتهم في التأويل
والنور الاخضر وهو الملك الذي على ملائكة الحجب ومنه مظهر الممات والمتلقي من صفته عزرائيل وهو ركن العرش الاعلى الايسر وهو المسمى باللوح والكتاب المسطور وهو المسمى بالنفس الكلية
والنور الابيض وهو الملك المسمى بالروح وروح القدس والمسمى بالعقل الكلي وبالقلم والملك المتلقي من صفته ميكائيل وهو ركن العرش الاعلى الايمن وهو المراد من قوله صلى الله عليه وآله اول ما خلق الله عقلي والعقل او نوري
وانما قلنا من صفته في الاخضر والابيض لان الاخضر يتلقى من ذاته ميكائيل والابيض يتلقى من ذاته جبرءيل وهنا تفاصيل كثيرة لسنا بصددها
وهذه الاربعة الذين هم اركان العرش المسمون بالعالين هم اوعية جميع آثار الرحمانية ومظاهرها وهم الحافظون لها وحملتها
والاربعة المتلقون منهم يعني جبرءيل وميكائيل واسرافيل وعزرائيل هم المؤدون عن العالين الحافظين الى قوابل الموجودات احكام الامور الاربعة الخلق والرزق والممات والحيوة ففي الدنيا حملة العرش اربعة
فان اريد الحمل الذي هو الحفظ فهم العالون وان اريد الحمل الذي هو التأدية فهم جبرئل وميكائل واسرافيل وعزرائيل هذا في الدنيا
وفي الاخرة يحمل ثمانية ويراد به وجوها منها حملة الحفظ وحملة التأدية كما مر
ومنها احكام الاربعة في الدنيا وفي الاخرة او في الرجعة فان اريد على هذا في الاخرة فالمراد من الموت هلاك الدين وهو شقاوة الابد نعوذ بالله
ومنها اذا اريد به الدين فالثمانية نوح وابراهيم وموسى وعيسى ومحمد وعلي والحسن والحسين صلى الله عليه وآله وعليهم
ومنها ان يراد به الاعم فيكون المراد بالحملة الثمانية هؤلاء الثمانية عليهم السلام فانهم حافظون للاكوان الوجودية والأكوان الشرعية اما من كل واحد بنسبة مقامه منها واما على التوزيع بمعنى ان نوحا وابراهيم وموسى وعيسى حاملون لبعض منها على قدر احتمالهم
ومحمدا وعليّا والحسن والحسين صلى الله عليه وآله وعليهم حاملون للكل على الانفراد والاجتماع اذ كل واحد منهم صلى الله عليهم علة تامة لكل شيء من التكوينية وشرعها والتشريعية ووجودها
ومنها ان العدد باعتبار ادراك عامة الخلق لذلك ففي الدنيا يدركون اربعة وفي الاخرة ثمانية
ومنها ان ذكر الثمانية باعتبار حمل اربعة لظاهر تلك الامور وحمل اربعة لباطنها وامثال ذلك
وفيه وجوه لا فائدة في ذكرها او لا يحسن ذكر بعضها والحمد لله رب العالمين ولا حول ولا قوة الا بالله العلي العظيم وصلى الله على محمد وآله الطاهرين
وكتب احمد بن زين الدين الاحسائي ضحى الثالث من جميدي الثانية سنة ثلاثين بعد المأتين والالف حامدا مصليا مسلما مستغفرا