
حسب جوامع الكلم – المجلد التاسع
طبع في مطبعة الغدير – البصرة
في شهر ربيع الاخر سنة 1430 هجرية
أما بعد فيقول العبد المسكين أحمد بن زين الدين الاحسائي : أن الأجل الأفخر المكرم الملا علي أكبر بن البصير محمد سميع وفقه الله لطاعته قد أرسل إلي كلمات قليلة مشتملة على معان جليلة يريد من الفقير الجواب وهي أنه
قال سلمه الله : إن تفضلوا وتكتبوا طريق خلوص النية وحضور القلب والقصد في الطاعات بأي شيء تحصل؟ بذكر أو فعل أو رياضة؟ وترقي النفس في الكمالات القدسية بأي شيء تيسر؟
أقول : إن النية إنما تخلص إذا ظهرت على مشاعر العبد آثار فضل الله سبحانه حتى جذبه الطمع فيما عند الله والرغبة في خيرات وعد الله الصادق وآثار عدله سبحانه حتى صرفه الخوف من مقام الله والرهبة في محذورات وعيدة المطابق فإذا حصل ذلك للإنسان انصرف عما سوى الله سبحانه وتعالى إليه فهناك تخلص نيته ويحضر قلبه عند الله وتكون أعماله مقبولة فينهمك في الطاعات وتترقى نفسه إلى الكمالات فيتخلق بأخلاق الروحانيين وتتعلق روحه بالمحل الأعلى من القدس إلا أن الإنسان لما كان منغمسا في رذائل الطبيعة محجوب الآنية تعسر عليه ذلك المطلب العالي وأصل ذلك الانغماس أنه لما ظهر إلى الدنيا كانت نفسه مصاحبة لحياته في طفولته وكان همها هما للطعام والشراب لضعف قواه عن الإدراكات الكاملة
ثم تدرج في مراتب الجهل من الشهوة والغضب والتكبر والحسد وغير ذلك من الأخلاق الرذيلة واستولت هذه القوى النفسانية على ذلك العبد واستوطنت مساكنها منازلها وكان العقل الذي يدعو الى الله سبحانه وتعالى والى طاعته إنما يأتي ذلك العبد شيئا فشيئا بالتدريج ولا يتم نزوله في أول مساكنه إلا عند البلوغ فيأتي ذلك المنزل وهو غريب وحيد لا ناصر له ولا معين وقد استولت أعداؤه وطغوا في البلاد فأكثروا فيها الفساد فدخلها فكان بينهم غريبا ذليلا حقيرا خامد الذكر معزول التصرف والأمر فتفضل الله عليه ثانيا بعد إيجاده وخلقه مهديا مستقيما يملك من جبروته يعينه على طاعته ويؤيده على أعدائه ونصر ذلك الملك بجند من ملائكته يفعلون بأمره ويدفعون أعدائه وهم بأمر ذلك الملك يهدون بالحق وبه يعدلون
تم تفضل الله سبحانه بعد ذلك مرة بعد أخرى فأرسل فيه رسول الله صلى الله عليه وآله وعلمه طريق شريعته ثانيا كما علمه طريق شريعته أولا وبين له مستقيم أعماله وأقواله وأفعاله وحركاته وسكناته وجميع أحواله من معوجها ونصب له الأدلة ولم يترك شيئا فيه صلاحه الأدلة عليه ولا شيئا يضره إلا عرّفه إياه وأحصى في كل شيء من أفراد الطريقين بأمره ونهيه لئلا تكون للناس على الله حجة بعد الرسل
والإشارة الى مجمل تلك الهدايات أنه أمر بالإقبال على الله والمسير إليه سبحانه دلك على طريق ذلك محبته ورضاه فأمرك بشريعته من الطهارة والصلاة والزكاة والصوم وسائر التكاليف واجبها ومندوبها على ما هو مقرر عند أهل الشرع ونبه على ذلك في مواضع من كتابه منها قوله تعالى : ( واستعينوا بالصبر والصلاة وأنها لكبيرة إلا على الخاشعين ) يعني أن غير الخاشعين لا يقدرون على الاستعانة بالصلاة على جميع مطالبهم لأنهم معرضون عن ذكر الله فكانت قلوبهم في غمرة من هذا ولهم أعمال من دون ذلك هم لها عاملون
فإذا أردت طريق خلوص النية وغيره إلى آخر ما طلبت فعليك بحسن العمل فإنه لا شيء كالعمل كما قال أمير المؤمنين عليه السلام فإذا أردت الصلاة فاسبغ الوضوء تقريبا إلى الله وأقرأ ما ندبك إليه من أدعية الوضوء وقبله وبعده وتوجه إلى ذلك بقلبك وقم إلى الصلاة بقصد الخدمة لله سبحانه وصل كما أمرك الشارع عليه السلام من الأفعال والأقوال
وتعود إقام الصلاة ولا تترك شيئا من النافلة ولا شيئا من المستحبة من صلاة أو دعاء أو قراءة القرآن تعللا بأن الله سبحانه لا يقبل إلا الخالص وما أقبل العبد إليه بقلبه فإذا لم تتوجه الى العمل بقلبك تركته وهذا من حيل الشيطان على الإنسان ليحرمه جميع الخيرات فلا تترك شيئا ما أفترضه الله ولا ما ندب إليه لأنك إن لم تقدر على العمل الصالح تقدر على صورته
وأوصيك أن تجعل همك في الأعمال الصالحة من صلاة واجبة ومندوبة ومن دعاء وصيام وزكاة من واجب ومندوب وقراءة القرآن لا سيما الآيات التي فيها المواعظ ولا تنسى ذكر الموت والآخرة وذكر قوله تعالى : ( واذكر عبادنا إبراهيم وإسحاق ويعقوب أولي الأيدي والإبصار إنا أخلصناه بخالصة ذكرى الدار ) فجعل ذكر الدار خالصة عباده الصالحين المصطفين الأخيار ومع هذا كله فيحتاج الى ساعة من ليلك ونهارك تخلو بنفسك وتنظر في المخلوقات من الأرضيين والسموات والجمادات والنباتات وتعتبر بما ترى من الآيات الدالة على قدرة خالق البريات فإنه لابد لمن يريد رضى الله والدار الآخرة ويريد أن يعرفه الله نفسه ويعرفه أنبيائه وأوليائه عليهم السلام وأن يبصره في دينه الذي ارتضاه ويجعله إنسانا فإن أكثر الناس بهائم كما قال الإمام الباقر عليه السلام : " الناس كلهم بهائم إلا قليل من المؤمنين والمؤمن قليل "
فلا بد لمن يطلب هذه المطالب العلية من النظر والتدبر في مخلوقات الله سبحانه كما قال الله سبحانه : ( قل انظروا ماذا في السموات والأرض ) وقال تعالى : ( أولم يتفكروا في أنفسهم ما خلق الله السموات والأرض وما بينهما إلا بالحق ) وقال تعالى : ( أولم ينظروا في ملكوت السموات والأرض وما خلق الله من شيء وإن عسى أن يكون قد اقترب أجلهم ) وغير ذلك من الآيات فإذا عملت بما وصفت لك من العبادات كما ذكره الفقهاء رضوان الله عليهم في كتبهم الفقهية وكتب الأدعية وقرأت القرآن بالتدبر في بعض أوقاتك وتفكرت في المصنوعات كما ذكرنا حصل لك نور يبعثـك على العمل وكلما عملت قويت وكلما قويت عملت كما قال الصادق عليه السلام : " بالحكمة يستخرج العقل وبالعقل يستخرج غور الحكمة " فإذا واظبت على ذلك فتح الله مسامع قلبك فأدركت الحكمة وعرفت العبرة وخلصت نيتك وحضر قلبك وصح قصدك في الخيرات وترقت نفسك في الكمالات القدسية قال الله تعالى في الحديث القدسي : " من أخلص لله العبودية أربعين صباحا تفجرت ينابيع الحكمة على لسانه " الحديث وقال تعالى : " ما زال العبد يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ولسانه الذي ينطق به ويده التي يبطش بها إن دعاني أجبته وإن سألني أعطيته وإن سكت ابتدأته " الحديث فبـين سبحانه أن سبب محبته للعبد هو تقربه إليه بالنوافل ومن أحبه الله قذف في قلبه العلم ومن هذا قال رسول الله صلى الله عليه وآله : " ليس العلم بكثرة التعلم وإنما العلم نور يقذفه الله في قلب من يحب فينفسخ فيشاهد الغيب وينشرح فيحتمل البلاء "
فقيل : يا رسول الله وهل لذلك من علامة؟
قال : " التجافي عن دار الغرور والإنابة إلى دار الخلود والاستعداد للموت قبل نزوله " فظهر أن النفس لا تترقى إلى الكمالات القدسية والمراتب العلية إلا بالعلم الحق المطابق الخالص وذلك العلم لا ينال إلا بمحبة الله ومحبته لا تنال إلا بالتقرب إليه بالنوافل والمراد بالنوافل الآداب الشرعية من صلاة وطهارة وصيام وورع واجتهاد وذكر وفكر والمراد بالفكر التفكر في المخلوقات واعتبار الآيات فقد ورد : " تفكر ساعة خير من عبادة سنة " ولقد قال علي أمير المؤمنين عليه السلام : " ليس العلم في السماء فينزل إليكم ولا في الأرض فيصعد إليكم ولكن العلم مجبول في قلوبكم تخلقوا بأخلاق الروحانيين يظهر لكم " ومثل معناه ما روي عن عيسى بن مريم وقال الله تعالى : ( لما بلغ أشده واستوى آتيناه حكما وعلما وكذلك نجزي المحسنين ) أي من أحسن العمل آتاه الله العلم بدون تعلم لأن السبب في كل خير حسن العمل كما في قوله تعالى : ( لنبلوهم أيهم أحسن عملا ) يعني إذا أحسن العمل آتاه الله الحكم والعلم كقوله تعالى : ( واتقوا الله ويعلمكم الله )
وأما ما أشرت إليه مما هو مشتهر الآن بين الناس من الطريق إلى معرفة الله هو الرياضات والأذكار المستحدثة وذلك من سنة أهل التصوف أتاهم الشيطان عن إيمانهم وأمرهم بالأذكار وضرب الطار وترجيع الغناء ونغمات المزمار وقال لهم : إن النفس خلقت من حال الأفلاك فإذا روحت بالألحان الموسيقية غابت عن ذلك العالم وتذكرت عالمها الأعلى ومركزها الأصل فتطلبه فتعرف ما يراد منها من المعارف لأنها قد فارقت الجسم بأفعالها فإذا فارقته لحقت بالعقل وهذه حيل الشيطان سول لهم وأملي لهم ولو كان ذلك الطريق حقا يوصل إلى الله تعالى وإلى ما يرضيه لما أهمله الشارع ولا يجوز أن يخل بشيء يحصل به رضاه وما يطلبه من المكلف على أن هذه الطريق لو حصلت لشخص بها معرفة كانت معرفة لا يحبها الله لأن الله حق وبيده الخير ولا ينال منه إلا برضاه فلا يدرك ما عنده بما لا يحب لأنه لو أحب هذا الطريق لأمر بها ودعا إليها وإلا كان مانعا من خيره سبحانه وتعالى عما يشركون فلا يعرفه أحد لسبيل عدوه الشيطان وإنما يعرف لسبيله وسبيل أوليائه عليهم السلام قال أمير المؤمنين عليه السلام : " نحن الأعراف الذين لا يعرف الله إلا بسبـيل معرفتنا " فقد حصر معرفة الله بـينوا وعملوا من العلم والعمل والعلم يهتف بالعمل فإن بالعمل وإلا ارتحل
وأما ما حصلوه أولئك المتصوفة الجهال فهو غير الحق وهم بربهم يعدلون أما ترى أن قدوتهم وكبيرهم مميت الدين ابن عربي وما سن لهم وموه عليهم حتى بلغت به معرفته إلى أن حكم بإيمان فرعون لعنهما الله من مشتبه قوله تعالى : ( حتى إذا أدركه الغرق قال آمنت … ) ونسي محكم قوله تعالى : ( وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدكم الموت قال إني تبت الآن ) وهذه مثل فرعون ( ولا الذين يموتون وهم كفار ) وهذا مثل ابن عربي ( أولئك اعتدنا لهم عذابا أليما ) وكذلك محكم قوله تعالى : ( فلما رأوا بأسنا قالوا آمنا بالله وحده وكفرنا بما كنا به مشركين فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا سنة الله التي قد خلت في عباده وخسر هنالك الكافرون )
أقول : يعني أن مثل ابن عربي وفرعون الذي قال الله في حقه : ( واستكبروا هو وجنوده في الأرض بغير الحق وظنوا أنهم إلينا لا يرجعون فأخذناه وجنوده فنبذناه في اليم فانظر كيف كان عاقبة الظالمين * وجعلناهم أئمة يدعون الى النار ويوم القيامة لا ينصرون * واتبعناهم في هذه الدنيا لعنة ويوم القيامة هم من المقبوحين )
كل هذه الآيات المحكمة جعلها ابن عربي مميت الدين لا حكم لها ووصفها من المشتبه وله الويل مما يصف وكذلك قال : " أنا الله بلا أنا " وجعله سبحانه لخلقه وجعل خلق المخلوقات وهما وسرابا لأنه لم يخلق إلا ذاته وقرر أن أهل الجحيم مآلهم إلى النعيم وقال : " إن علم الله مستفاد من الخلق وقال إن الله أحب أن يعبد في السامري لأنه يحب أن يعبد في كل صورة " وهذا وأمثالها هي نتائج الرياضات والأذكار ونغمات الأوتار وحيث جعلها وسيلة وترك سنة النبي صلى الله عليه وآله وطريقة أهل بيته عليهم السلام ( وإن لو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماء غدقا لنفتنهم فيه ) ( ولو أن أهل الكتاب آ منوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون ) فهؤلاء في الحقيقة ضالون مضلون فالعاقل يطلب النجاة حيث يمكن وذلك في إتباع الهادين المهديين وأما طريق غيرهم فلا نجاة لسالكه وما أحسن ما قال الشاعر وما أصدقه في هذا المقال :
إذا شئت أن تختر لنفسك مذهبا ينجيك يوم الحشر من لهب النـــــــــــار
فدع عنك قول الشافـعي ومـالـك وحنبل والـمروي عــن كــعــب أحـبـار
وأعلم أن الشريعة التي أسسوها عليهم السلام نور توصل الى نور فاطلب النور بالنور فلا تطلب النور بالظلمات فإنها لا توصل إلا إلى الظلمات وهذا الطريق الذي وصفت لك هو أقرب الطرق إلى الله وأصحها وأنجحها
وإن أبيت إلا الرياضة فأصحها طريق أهل بيت العصمة عليهم السلام وهو أنك لا تأكل حتى تجوع وإذا جعت فكل ولا تملأ بل ترفع يدك وأنت تشتهي الطعام ولك ميل إليه وإياك والشبع فإنه من مؤديات جنود الشيطان وكذلك الشراب لا تشرب حتى تعطش فإذا عطشت فاشرب فلا تملأ فارفع رأسك وأنت تشتهي وتدبر قول الله عز وجل : ( كلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين ) وقد ذكرنا سابقا أن العلم نور يقذفه الله في قلب من يحب وذكر في الآية الشريفة أنه لا يحب المسرفين في الأكل والشرب
فإذا أردت استعمال الذكر فاذكر لدفع مكاره الدنيا والآخرة " اعتصمت بالله " تقولها ثلاثا وأربعين مرة وإن قلتها بحساب الجمل فهو أنجح ولدفع ما يجري في الخواطر من ضرر التطير والتفأل والدعوى وعدم الرضا بالقضاء وما أشبه ذلك " اعتصمت بك يا رب من شر ما أجد في نفسي فاعصمني من ذلك " تقولها ولو مرة واحدة وتقول عند المضائق : " حسبي الله " مائة وست وأربعون مرة تنفرج وتقول للنوائب والحوادث اثنين وأربعين مرة : " توكلت على الله " وإن قلتها بعدد الجمل الكبير فهو أنجح وهذه الأذكار وما أشبهها سريعة الإجابة بشرط الإقبال والتوجه التام عند كل لفظة تذكر مطلوبك من غير تصور له ولا لنفسك وإنما تتوجه إلى معطي الخبرات جل وعلا والحمد لله رب العالمين ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم وصلى الله على محمد وآله الطاهرين وكتب أحمد بن زين الدين حامدا مستغفرا مصليا
في جواب المسائل التالية :
قال السائل :
فإليك أشكو ضعف نفسي عن المسارعة فيما وعد الله أوليائه والمجانبة عما حذر الله أعدائه ووسوسة نفسي وقلة صبري وكثرة همومي وإليك أشكو قلبا قاسيا مع الوسواس متقلبا وبالرين والطبع متلبسا
وتعلموني ذكرا ووردا لتصفية الباطن وتنوير القلب بنور المحبة والزهد في الدنيا والرغبة فيما عند الله … وترشدونني إلى طريق تصلح لي ديني وما فسد مني وتصلح معاشي ومعادي
والمدعو من فضلكم أن تبينوا معنى الأمرين من الجبر والتفويض وما معنى ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن؟ وما معنى لا حول ولا قوة إلا بالله؟
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد وآله الطاهرين وبعد
فيقول العبد المسكين أحمد بن زين الدين الاحسائي أنه قد بعث إليّ السيد الجليل سيدنا إسماعيل بخط التمس مني الجواب لمسائل كتبها وقد وردت عليّ في حال اشتغالي بشرح الزيارة الجامعة وكنت التزمت أني لا أشتغل بشيء فلما وفقني الله عز وجل لإتمامه وذكرت كلامه أعلى الله مقامه كتبت ما حضر وجعلت كلامه متنا ليبين معنى كل مسألة في محلها وبالله سبحانه أستعين
قال سلمه الله : فإليك أشكو ضعف نفسي عن المسارعة فيما وعد الله أولياءه والمجانبة عما حذر الله أعداءه
أقول : إن النفس خلقت على ما هي عليه من قابليتها ومقتضى قابليتها الضعف عن ذلك وإنما أفاض عليها الوجود لتقوى على طاعته وكانت الإفاضة في مقامين :
الأول : تكونت في صورتها الظاهرة
والثاني : به تكون في نوريتها وقوتها على القرب من خالقها
فأما الأول فمعلوم وأما الثاني مادة الوجود التشريعي وهو الإرادات الإلهية من المكلف والأوامر الشرعية
وكما أن الوجود التكويني الأول لا يتحقق إلا بقابلية المكلف وهو امتثال الأوامر واجتناب النواهي كما قرر الشارع عليه السلام : " بالعقل يستخرج غور الحكمة وبالحكمة يستخرج غور العقل " والمراد أنك تحمل النفس على بعض الأعمال الصالحة فإذا عملت قوى العقل فإذا قوي العقل بعثها على العمل وهكذا فأنت تعود نفسك على فعل الخير فإن فعلت فحسن وإن خالفت فلا تهتم بما مضى واجتهد بما يأتي فربما لو اهتممت بما مضى كان شاغلا لك عما يأتي ولا يرجع لك ما مضى وتستدرك ما مضى بالندم والاستغفار ولا يكون الندم شاغلا لك عما يأتي
وأكثر من ذكر الموت وأحوال الآخرة من الجنة والنار واعتبر بمن كانوا معك وسافروا قبلك الى الآخرة واقتدي بمن استعد لذلك السفر الطويل بالزاد الجزيل منهم وحذر نفسك أن تكون كمن سافر بغير زاد
واجعل لك وقتا في اليوم والليلة ولو قدر ساعة أو أقل تنظر فيه إلى ما خلقه الله من السموات والأرض وتعتبر بآيات الله قال تعالى : ( ويتفكرون في خلق السموات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلا )
واجتهد في إخلاص العمل وإن كان قليلا لأن الله تعالى يقول : ( لنبلوهم أيهم أحسن عملا ) ولم يقل أكثر عملا فافهم
قال سلمه الله : ووسوسة نفسي وقلة صبري وكثرة همومي
أقول : اعلم إن الشيطان يأتي المؤمن إذا وقع منه تقصير ويفتح عليه باب الخوف ليشغله عن التلافي والإتيان بما سيأتي وليدخله في باب القنوط ومن المؤمنين من يجري على خاطره تصور حال قبيح في الله تعالى؟أو في أنبيائه وأوليائه والتصور في الحقيقة ليس منك وإنما هو من إلقاء الشيطان وهذا هو النجوى الذي ذكره في كتابه فقال : ( إنما النجوى من الشيطان ليحزن الذين آمنوا وليس بضارهم شيئا إلا بإذن الله ) وهذا كما قال تعالى : ( وليس بضارهم شيئا إلا بإذن الله ) لأن كيد الشيطان ضعيف فإذا عرض لك فلا تخف منه ولا تهتم به فإنه يذهب عنك كما قال الله : ( فمثله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث ) والشيطان مثل الكلب تمر عليه فينج عليك فإن تتركه رجع فإن اعتنيت بطرده أشغلك فكلما طردته ذهب وإذا رجعت رجع وأما إذا تركـته تركك فاعتبر بهذا المثال على أن هذا الذي جرى في تصورك ليس منك بل هو من الشيطان ولهذا يجري على خاطرك بغير محبتك ورضاك ولو كان منك لرضيت به فإذا عرفت أنه ليس منك فلا يضرك ولا تخف منه واعلم إن الخبيث يأتيك به هو ويقول لك قد كفرت أو نافقت أو ارتددت فلا تطعه ولو كان منك لما كرهته وإذا لم يكن منك كيف تكون كافرا بفعل غيرك أو مرتدا ومع هذا فأنت تكثر من قول : " يا مقلب القلوب والأبصار صل على محمد وآل محمد وثبت قلبي على دينك ودين نبيك صلى الله عليه وآله ولا تزغ قلبي بعد إذ هديتني وهب لي من لدنك رحمة انك أنت الوهاب " ليلا ونهارا فإذا خطر على خاطرك ما تكره فقل : " أ شهد أن لا اله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمد ا عبده ورسوله وأشهد أن عليا ولي الله "
وأما قلة الصبر فانظر في نفسك هل تدرك مطلوبك بالصبر أم بقلة الصبر فإن قلت بقلة الصبر فلم تكرهه؟ وإن قلت بالصبر فاصبر حتى تدرك مطلوبك
وأما كثرة الهموم فأنت جربتها هل حصلت بها شيئا مما أهمك أم لا؟ فإن قلت حصلت بها فينبغي أن تفعلها وتلازم عليها وإن قلت : ما حصلت منها إلا الأذى فاتركها ولا تطلب لنفسك الأذى بما لا ينفعك
ومن الأدعية المجربة إذا أصابك غم فقل ثلاثين مرة " لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين " فقد جرّبته
مرارا وعليه أعتمد وهو مروي عن النبي صلى الله عليه وآله
قال سلمه الله : وإليك أشكو قلبا قاسيا مع الوسواس متقلبا
أقول : ليس قلبك قاسيا ولا متقلبا مع الوسواس لأن القلب القاسي هو الذي لا يشعر بهذه الأمور بل يطمئن إليها ولو تقلب مع الوسواس لرأي ذلك حقا وفرح به فلما تألم قلبك من ذلك دل على أنه ليس منك ولا منه وإنما هو من نجوى الشيطان وإذا كان من غيرك لا يضرك بل جزع قلبك من هذا ومثله كما قال صلى الله عليه وآله : " ذلك محض الإيمان " ومعناه إنما خاف قلبك من هذه الأمور لأنه مطمئن بالإيمان فإذا ذكره الشيطان ذلك ليحزنه تألم من ذلك لأنه منكر لها وهو معنى كونه " ماحضا للإيمان "
قال سلمه الله : وبالرين والطبع متلبسا
أقول : علاجه أن تجلوه وتصقله مما ذكرنا من الاستغفار والإكثار من ذكر الله ومن ذكر الموت والجنة والنار وبإخلاص العمل وبملاحظة الرجاء في الله تعالى وحسن الظن به
ثم قال : وتعلموني ذكرا ووردا لتصفية الباطل وتنوير القلب بنور المحبة والزهد في الدنيا والرغبة فيما عند الله
أقول : الذكر قسمان
أحدهما : هو ما ذكرنا لك من التفكر في خلق الله وصنعه وآثار قدرته وذكر نعمه وجميل إحسانه وحسن الظن به والرجاء فيه والخوف من مقامه وأن تذكره عند الطاعة فتفعلها وعند المعصية فتتركها وأمثال هذا …
وثانيهما : ما تتلفظ به من الذكر وأفضله الصلاة على محمد وآله فإنها تكفر الذنوب من دون توبة ولعن أعدائهم فإنها موجبة للشفاعة في الدنيا بإصلاح الأحوال وقضاء الحوائج ودفع الموانع وفي الآخرة بالسلامة من النار والفوز بالجنة
والذكر الخاص لكل مطلوب " توكلت على الله " ألف وثلاثة وعشرون ولكل مخوف " اعتصمت بالله " ألف وتسعة وستون
وأما تصفية الباطن ففرغ قلبك لذكر الله سبحانه ولذكر أسمائه عليهم السلام فإن اجتمع قلبك على هذا صفى باطنك واستنار قلبك بنور المحبة وذلك مع المداومة على المستحبات الشرعية والتوجه في الواجبات
وأما الزهد في الدنيا فكما قال الصادق عليه السلام : " ألا تكون بما عندك أوثق بما عندك الله "
وأما الرغبة فيما عند الله فبذكر انقطاع الدنيا ولذاتها وفنائها وذكر دوام الجنة ولذاتها وبقائها وإكثار التفكر في تقلب الدنيا وغدرها بمن ركن إليها وأشباه ذلك
وذكر الموت وما بعد الموت والحساب والوقوف بين يدي الله وزيارة القبور والاعتبار بها وبالدنيا وبما فعلت بأهلها وهذا وأمثاله مذكور في أحاديث أهل البيت عليهم السلام وفي كتب العلماء الموضوعة في علم اليقين والتقوى
قال سلمه الله : وترشدوني الى طريق تصلح لي ديني وما فسد مني وتصلح معاشي ومعادي
أقول : عماد هذا وقوامه المصلح للمعاش والمعاد هو التوكل على الله وتفويض الأمر إلى الله والرجاء في الله وحسن الظن بالله
قال سلمه الله : وما معنى ما شاء الله وكان وما لم يشأ لم يكن؟
أقول : اعلم أن الله سبحانه كان ولا شيء معه غيره ثم خلق المشية بنفسها لا من شيء غير نفسها حين خلقها فاحدث بها الإمكان حين أحدثها لأنه محل خلقها في السرمد يعني أن المشية خلقها بنفسها في مكانها ووقتها فمكانها الإمكان ووقتها السرمد فهذه الثلاثة هي الوجود الراجح وهو الوجود المطلق والمشاءات في الإمكان المساوي وهو الوجود المقيد وأوله العقل الكلي وآخره ما تحت الثرى فلما أمكن الممكنات كانت حصصها الجزئية بالنسبة إلى الإمكان الكلي حصصا كلية غيرمتناهية مثلا أحدث في الإمكان الراجح الذي هو العمق الأكبر المشار إليه في دعاء السمات للحجة عليه السلام إمكان زيد على وجه كلي غير منتاه وإنما قلنا أنه جزئي بالنسبة إلى العمق الأكبر ومعنى كون إمكان زيد على وجه كلي أن حصة من الإمكان الراجح قبل التكوين يجوز أن تكون زيدا وعمرا أو جبلا أو جملا أو طيرا أو أرضا أو سماء أو ملكا أو شيطانا أو معدنا أو نباتا وهكذا الى غير نهاية فزيد في العلم الحادث الإمكان الراجح الوجود يجوز أن تقول أنه هو ليس شيئا يعني مكونا قال تعالى : ( أولا يذكر الإنسان إنا خلقناه من قبل ولم يك شيئا ) يعني لم يكن شيئا مكونا ولكنه شيء معلوم ممكن ويجوز أن تقول : هو شيء يعني هو ممكن وليس مكونا قال تعالى : ( هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا ) يعني أنه ما مر عليه وقت من الدهر إلا وهو مذكور ولكن مذكور في العلم والإمكان لا أنه مذكور في التكوين فلله سبحانه في كل شيء مشيتان : مشية إمكان ومشية تكوين
فلإمكان : هو الخزانة الكبرى التي تتناها والله الكريم سبحانه يمد منه كل مكون بما شاء ولا نهاية لهذا الإمكان إلا في الملك الذي تفرد به تعالى فإذا قلت : " ما شاء الله كان " تريد ما شاء الله تكوينه من الممكنات التي شاء إمكانها كان بمشيته التكوينية من مشيته الإمكانية وما لم يشأ تكوينه من الممكنات التي شاء إمكانها بالمشية الإمكانية لم يكن لأن الممكن لا يكون مكونا إلا بالمشية التكوينية مثلا الجبل له حصة إمكانية من الإمكان الراجح فكون هذا الجبل من تلك الحصة الإمكانية التي قلنا أنها حصة إمكانية جزئية على وجه كلي غير متناه فإن هذا الجبل يمكن أن يكون ذهبا وإنسانا وملكا وحيوانا وشيطانا وبرا وبحرا وغير ذلك مما لا نهاية له ولا غاية أبد الآبدين فحاصل المعنى : ما شاء الله تكوينه من الممكنات كان وما لم يشأ تكوينه منها لم يكن وإذا كونه ليس فيه البداء ألا يكون لأنه كونه وكونه لا يكونه محال ولكن له أن يغير تكوينه الى أي صورة شاء بلا غاية ولا نهاية كما قال تعالى : ( في أي صورة ما شاء ركبك ) وأما قول الصوفية وأتباعهم " أنه ليس للحق في الشيء إلا وجه واحد لأن علمه كذلك وعلمه تعالى لا يتغير " وساوس وجهل بمقام الحق تعالى حتى أنهم يقولون " لا تتعلق قدرته تعالى بهداية الخلق كلهم لأنهم ما أعطوه العلم من أنفسهم بذلك " وهو غلط فاحش فإن الله تعالى العالم بذاته وبخلقه يقول : ( ولو شاء الله لجمعهم على الهدى فلا تكو نن من الجاهلين ) فكيف يقول تعالى : لشيء " كن " ولا يكون ؟ أو أنه أتى بهذا الفرض على جهة الفرض والتمثيل كما أحتمله بعضهم وكتبه هو زعما منه أن هذا مما لا يحتمله إلا أهله حتى أن الملا محسن في الوافي في باب الشقاوة والسعادة عنون بيان هذا فقال : " وإن كان الظاهريون لبمعزل عنه "
قال سلمه الله : وما معنى لا حول ولا قوة إلا بالله؟
أقول : روي معناه عن أمير المؤمنين عليه السلام : " لا حول لنا عن المعاصي ولا قوة لنا على الطاعة إلا بالله "
ومعنى هذا الكلام أن الحول أي التحول عن المعاصي إنما يكون لنا بالله لأن لنا حقيقتان :
حقيقة من الله وهو الوجود وهو يقتضي الطاعات يميل طبعه ويقتضي التحول عن المعاصي كذلك لكنه محدث محتاج في بقائه إلى المدد وكذا في حصول الميل له وبقائه له وهو أي المدد إنما يجري على المحدث من فعله تعالى بإرادته فإذا لم يرد لم يصل إليه مدد وإذا لم يصل إليه مدد لم يكن له اقتضاء ولا ميل هذا إذا وصل إلى الذات نفسها ولم يصل الى نفس الاقتضاء والميل مدد وإلا لم يكن شيئا أصلا وحقيقة من نفسه وهي الماهية وهي تقتضي المعاصي بميل طبعا وتقتضي ترك الطاعات كذلك وهي محدثة من الوجود المحدث ومحتاجة في بقائها وفي اقتضائها وميلها كذلك وميل الوجود من نوعه ومددها من نوعها وكل بإرادة الله تعالى فإذا أراد العبد الطاعة باقتضاء حقيقته وميلها وهي الوجود لا يقوى عليها إلا بمعونة من الله وهذا معنى ولا قوة لنا على الطاعات إلا بمعونة من الله تعالى وإن مال إليها وجودنا وأحبها قلبنا وإذا أراد ترك المعصية بعد ميل ماهيتها ومحبة نفسها الأمارة بالسوء لها لم نقدر على تركها والتحول عنها إلا بمعونة من الله تعالى
وهذا معنى " لا حول لنا عن المعاصي إلا بالله " لأنه لو أمد الماهية حين مالت الى المعصية عصى العبد قطعا ومدده تعالى لها التخلية والخذلان فلا يطيع العبد إلا بالله فإذا مال الى الطاعة وائتمر بها أمده بالمعونة ولا يمنعه ما يحب منه أن يفعل
ولا يعصي العبد إلا بالله لأنه إذا مال إلى المعصية وائتمر بها فإن شاء أن يحول بينه وبينها فعل بأن يمد مقتضى الترك لها وهو الوجود وإن لم يشأ ذلك خلاه وكان تخليته مددا لمقتضى فعلها وهو الماهية ولا يجب في الحكمة عليه تعالى أكثر من هداية النجدين والمعونة إذا شاء وله الحمد على كل حال والحمد لله رب العالمين
بيان معنى قول الإمام عليه السلام
" بنا عُرف الله …"
فقوله ( عليه السلام ) : " بنا عرف الله " له معان :
أحدهما : بما وصفنا الله تعالى بصفاته وذكرنا مما يجوز عليه ويمتنع عليه وكل وصف وصف به غيرنا فإنه لا يجوز عليه ولا يجوز عليه إلا ما وصفناه به لأنا لا نقول عليه إلا ما وصف به نفسه
ثانيا : إنا شرط التوحيد فمن لم يعرفنا لم يعرف الله لأن الله تعالى جعلنا أركان توحيده والمراد بالشرط هنا الشرط الركني وذلك لأنهم معانيه فهم عينه ولسانه ويده وأمره وحكمه وعلمه ومعنى كونهم معانيه أنهم معاني أفعاله …
وثالثهما : إنا شرط التوحيد يعني أن التوحيد لا يتحقق إلا بالإقرار بولاياتهم الحق وفيه تعريض بغيرهم
والمراد أن من عرف إلها اتخذ لخلقه دعاة مهتدين هادين فقد عرف ربه بالغنى المطلق الذي هو عبارة عن التوحيد الكامل بخلاف من عرف إلها اتخذ لخلقه دعاة ضالين مضلين فإنه ما عرف ربه لأن الإله اتخذ لخلقه دعاة ضالين مضلين فإنهما عرف ربه لأن الإله الذي اتخذ دعاة ضالين مضلين إنما دعاه إلى ذلك الحاجة أو عدم القدرة على تحصيل هادين مهتدين أو عدم علمه بهموالمحتاج وفاقد القدرة ليس بالله حق فبهم يعرف الله
ورابعهما : أنا آيات الله التي تدل عليه والمراد أنهم هم الآيات التي قال : ( سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم ) فهي التي يعرفون الله بها وهو قول الصادق عليه السلام في حديث عبدالله بن بكر الارجائي عن كامل الزيارة وهو طويل وفيه قال عليه السلام : " والحجة بعد النبي - صلى الله عليه وآله يقوم مقام النبي وهو الدليل على ما تشاجرت فيه الأمة والأخذ لحقوق الناس والقائم بأمر الله والمنصف لبعضهم من بعض فإن لم يكن معهم من ينفذ قوله وهو يقول : ( سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم ) الآية فأي آية في الآفاق غيرنا أراها الله أهل الآفاق ؟ وقال تعالى : ( ما نريهم من آية إلا هي أكبر من أختها ) فأي آية أكبر منا؟ " الحديث
والآية هي الدليل عليه ولهذا قال عليه السلام : " نحن صفات الله العليا " ولا شك أن الشيء إنما يعرف بصفته وهي كما قال أمير المؤمنين عليه السلام : " صفة استدلال عليه لا صفة تكشف له "
وخامسها : لما ظهرت عليهم آثار الربوبية حتى أنهم يحيون الموتى ويبرؤن الأكمه والأبرص ويفعلون كل ما أرادوا بإذن الله سبحانه لأنه تعالى أخذ على جميع ما خلق الطاعة لهم ومع هذا ظهروا بكمال العبودية وبشدة العبادة وكمال الخوف من مقام الله تعالى فعرف الخلائق ربهم بذلك كما ورد في حق الملائكة أنهم لما رأوا أنوارهم تحيروا فسبحوا فسبحت الملائكة فهللوا فهللت الملائكة وكبروا فكبرت الملائكة وذلك لأن الملائكة لما رأوا أنوارهم ظنوا أن هذا نور معبودهم فلما سبحوا عرفت الملائكة أن هذا نور مخلوق فقالوا عليهم السلام : " بنا عرف الله "
وفيه أيضا وجوه وهذا أظهرها …
في بـيان استجابة الدعاء
أقول : إن الله سبحانه قال : ( ادعوني استجب لكم ) وهذا مجمل وبينه في قوله : ( وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداعي إذا دعاني فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون )
ومن معنى بيانه أنه قال : ( فليستجيبوا لي ) يعني أني دعوتهم إلى أن يدعوني ويؤمنوا بي أي يصدّقون بأني أقرب إليهم من حبل الوريد وأني أجيب الداع فإذا دعا وهو شاك في أنه يجيب الدعاء لا يستجيب له وإن دعا وهو لا يعرف من دعاه لا يستجيب له كما قال جعفر بن محمد عليهما السلام لما قيل له ما بالنا ندعوا ولا يستجاب لنا؟ فقال عليه السلام : " لأنكم تدعون من لا تعرفونه "
فإذا أردت استجابة الدعاء فادعه وحده لأنك إذا لم تعرفه فإنما تدعوا غيره وطريق معرفة موجب للاستجابة أن تعزم عليه تعالى بما دعاك فتوجه إليه غير ناظر إلى حاجتك ولا إلى نفسك على نحو ما إذا قلت لزيد يا قاعد فإنك غير لاحظ للقعود وإنما أنت متوجه إلى زيد فكذلك إذا قلت : " اللهم اغفر لي " فلا تلتفت إلى كونك ولا إلى كونك سائلا ولا إلى المغفرة وتتوجه إليه تعالى لا إلى جهة بلا كيف فإنك إذا فعلت كذلك استجاب لك في مكانك فإنك إذا فعلت كذلك استجاب لك في مكانك ولقد جربت ذلك خمس أو ست مرات فلا ينقطع كلامي إلا بالإجابة
وطريق آخر : أن تتقي الله بأن تطيعه في كل ما يريد منك فإذا كنت كذلك فهو أكرم منك وأولى بالفضل فإذا دعوته استجاب لك في كل ما تريد وهو تعالى نبهك على ذلك بقوله : ( إنما يتقبل الله من المتقين)
الغِيبة
سؤال : هل بمجرد سماع الغِيبة يحكم بفسق المغتاب أم لا؟ وهل يجب الرد على السماع أم لا؟ وهل السماع بقصد الرد من أحد وجوه الجواز أم لا؟
أقول :
من سمع الغيبة ولم يعلم أن من اغتيب متظاهر بالفسق ولم يكن ذلك في جرح شاهد ولا نصح مستشير ولا من باب ذكر فضل بعض العلماء على بعض وأمثال ذلك بل إنما كان ذلك مجرد إظهار عيب مؤمن فإن ظهر له من المغتاب إمارات الندم والتوبة وإلا جاز الحكم بفسقه إن عين مؤمنا باسمه أو بـإشارة مفهمة تعيينيه للسامعين أو بعضهم
ثم إن كان ذكر الغيبة بكلام لو بين وجه العذر فيه للمؤمن قبل ذلك المغتاب عذره ولم يغتبه جاز استماعه حتى يستوفي كلامه ثم يرده بل وإن لم يقبل المغتاب ولكن من السامعين من يقبل وإلا ترد كلامه قبل إتمامه إن تمكنت من ذلك وإلا فقم عن المجلس إن تمكنت وإلا فسد أذنيك ولو تعذر عليك وجه التخلص فالله أرحم الراحمين وخير الغافرين