وصل عَرف النّفحة الرحمانية إلى مشام حضرة السيد تقي المنشادي وهو في عنفوان شبابه في قرية منشاد، فأصبح روحانيًا صرفًا. كل أفكاره ربانية وقلبه نوراني وشملته التوفيقات السبحانية، وخلق فيه النداء السماوي عظيم الوله والطرب حتى ساقه ذلك إلى هجر مسقط رأسه وتَرْك أملاكه وأقربائه وأولاده وهام كالتائه في الصحارى وطوى القفار والفيافي إلى أن طوّحت به يد المسير إلى الساحل، فركب البحر إلى ميناء حيفا حيث نزل ومنها اتّجه إلى بلدة عكاء قَصْد التشرف باللقاء. ولما فاز بالتشرف عاد إلى حيفا وافتتح فيها حانوتًا صغيرًا ليبيع فيه بعض السلع، وكان يقنع بالربح القليل وقد شملته في ذلك البركة والنعمة وأصبح محطّ رحال الأحباء في تلك المدينة وبيته مأوى الزائرين الواردين من الأطراف. فكان يحتفي بهم ويهيّئ لهم الولائم مدّة آقامتهم في حيفا، وكان الكل يلهج بحمده وشكره على ما لآقاه منه من عظيم الحفاوة والإكرام والقِرَى وكان، فضلاً عن كل هذا، يسهّل للمسافرين أمور السفر حال عودتهم إلى أوطانهم مقدِّمًا لهم كل مساعدة ممكنة، بإخلاص تام واستقامة لا تضارع. وأنيط به إرسال الألواح المباركة إلى أربابها في مختلف الأصقاع، وجميع العرائض الواردة من الجهات كانت تأتي بعنوانه ويقوم هو بإيصالها إلى الساحة المقدّسة بكل أمانة و دون تأخير. واستمرّ في أداء هذه المهمة زمنًا ليس بالقليل بحيث ارتاحت من عمله الضمائر إذ كان يؤدّي هذه المهمّة بطريقة محكمة وكان في هذا السبيل معتمدًا أمينًا واشتهر بذلك في جميع الأقطار وشملته ألطاف الجمال المبارك حتى أصبح معدن العدل والإنصاف مجردًا عن كل عُلقة دنيوية. وتعوّد خشونة العيش وعدم التقيّد في طعامه أو نومه. لم يركن إلى الراحة والمرح، يسكن منفردًا في غرفة مكتفيًا في أغلب وجبات طعامه برغيف من الخبز بلا إدام، وينام في ركن من أركان غرفته. غير أنه كان كالماء المعين للمسافرين من أهل البهاء ويهيّئ لمن أراد منهم أن ينام عنده فراشًا وثيرًا، ويقدّم لهم أنواع الطعام الشهيّ. كان طلق المحيّا باسم الشفتين حسن الأخلاق مملوءًا بالروح والريحان ودام، بعد صعود نيّر الآفاق إلى الملأ الأعلى، ثابتًا على العهد والميثاق بدرجة لا غبار عليها، وكالسيف القاطع في وجوه الناقضين الذين مارسوا جميع الحيل ليأخذوه إلى جانبهم أو يوجدوا ثُلْمَةً في ثبوته ورسوخه على العهد فلم يفلحوا وباءوا بالفشل العظيم، رغم ما قدموه لشخصه الكريم من الاحترام الزائد وإظهار المحبة له ومدّهم الموائد بأنواع الطعام الفاخر ومواجهته بوجوه باسمة. كل ذلك لم يغيّر من استقامته وأفكاره وتبرّأ من كل شيء عدا العهد والميثاق الإلهي. ولمّا يئسوا من محاولة تزلزله وأخذه إلى جانبهم قلبوا له ظهر المجن وأظهروا له الجفاء وعملوا على مناوأته وبلبلة أفكاره بلا جدوى لأنه كان جوهر الثبوت وحقيقة الاستقامة. وبتحريك من عديمي الوفاء، قام عبدالحميد خان (السلطان العثماني) على مناوأة هذا العبد والتعرض له. ولما كان السيد تقي المذكور مشهورًا بين الجمهور بأنه واسطة إرسال المكاتيب الواردة من الساحة المقدّسة إلى أربابها في مختلف البقاع وإيصال العرائض الواردة من الخارج إلى المحضر المبارك، رأيت أن لا مناص إرساله إلى پورسعيد حيث قام بنفس المهمّة التي كان يؤديها، فقام بذلك خير قيام بطريقة تخفى على الأبصار والأوهام وبهذه الوسيلة خابت مساعي عديمي الوفاء ولم يقع في أيديهم شيء من المكاتيب فساقتهم الخيبة إلى دسّ الدسائس لدى الهيئة الحاكمة التي نسّبت مجيء هيئة من المفتشين من الآستانة إلى هذه الديار وكان ذلك في أواخر أيام عبدالحميد ولما حضرت الهيئة المذكورة لعب الناقضون والمعاندون دورهم معها وحملوهم على أن يشيعوا بأنهم سوف يقلعون الشجرة المباركة من جذورها. وصمّمت الهيئة على إلقاء هذا العبد في اليمّ أو نفيه إلى فزّان (من أعمال صحراء ليبيا بشمال إفريقيا) وهذا ما عقدوا عليه نواياهم بعد أن خاب مسعاهم في العثور على المكاتيب. ورغم التضييق الشديد وهجوم كل خبيث من أعضاء هيئة المفتشين وغيرهم على هذا العبد فكانت حركة المكاتبات جارية باستمرار على ما يرام وبغاية الإتقان وفق الخطة المرسومة.
والخلاصة، إن حضرة السيد تقي المنشادي قد قام بما كلّف به بكل همّة ونشاط عدة سنوات وكان جميع الأحباء في كمال السرور من أعماله، كما كان المسافرون ممنونين للغاية من خدماته الصادقة وكنت ترى المهاجرين في خجل عظيم من حسن معاملته. وأمضى مدة في پورسعيد لم يَرَ منه الأحباء هناك غير ما يجلب سرورهم وابتهاجهم غير أنه كان يكابد عناءً عظيمًا في تحمّل حرارة البلاد المصرية وأدّى ذلك إلى توعّكه وملازمته الفراش. ومن وطأة الحمّى الشديدة خلع ثيابه. ومن پورسعيد رفّت روحه إلى ملكوت الربّ المجيد وصعد إلى جوار ساحة الكبرياء.
كانت هذه الدرّة اليتيمة جوهرة العقل والنُّهَى وحقيقة التُّقى متحليًّا بالفضائل وجميل الخصال مما استوجب حيرة عقول الفحول من الرجال. ولم يفكّر في غير الحق ولم يطلب غير رضاء الربّ الواحد الأحد وكان مصداق البيان الآتي: "حتى أجعل أورادي وأذكاري وِردًا واحدًا وحالي في خدمتك سرمدًا". برّد الله لوعته بفيض الوصال، وشفى علّته بدرياق القرب في ملكوت الجمال. وعليه البهاء الأبهى.