الحقّ فهمه سهل

حضرة عبد البهاء
أصلي عربي

الحقّ فهمه سهل

في يوم الإثنين الموافق 4 أيلول 1911 وصل حضرة عبد البهاء إلى لندن وفي مساء ذلك اليوم ألقى في الأحبّاء الّذين حضروا للتّرحيب به الخطبة التّالية:

لقد بارك الله هذا اليوم. فقد قيل إنّ لندن ستكون مركزًا لنشر الأمر على نطاق واسع وعندما ركبت في السّفينة كنت أشعر بالتّعب إلاّ أنّني عندما بلغت لندن ورأيت وجوه الأحبّاء زال عني كلّ عناء وانعشتني محبّتكم العظيمة. وإنّني لراضٍ عنكم.

لقد أخذ الإحساس الموجود بين الشّرق والغرب يتغيّر في ضوء تعاليم حضرة بهاء الله. فلقد كان من المعتاد في الشّرق أنّ الغربي إذا شرب من آنية الشّرقيّ كسرها الشّرقيّ ظنًّا منه أنّها قد تنجّست. وأمّا الآن فإنّ البهائيّ الغربيّ إذا تناول الغداء عند البهائيّ الشّرقيّ فإنّ هذا يحفظ الأواني تذكارًا وعلامة للمحبّة والاحترام.

ولقد بلغت درجة تفاني الأحبّاء في الإخلاص بعضهم لبعض أنّ بعض الجند ذهبوا إلى منزل أحد البهائيّين في طلب أحد ضيوفه لتنفيذ الأمر بالقتل فيه. فخرج لهم صاحب المنزل وبيّن لهم أنّه هو المطلوب فأخذوه وقتلوه. وبذلك افتدى ضيفه بنفسه. فهذا هو عنوان المحبّة الخالصة.

إنّ مغناطيس محبّتكم هو الّذي جذبني إلى هذه البلاد. فأملي أن يشرق فيها النّور الإلهيّ، وأن يؤيّدكم الجمال الأبهى حتّى تكونوا سببًا في وحدة الإنسانيّة، وزوال التّقاليد والبدع والخرافات. وبذلك تتّحد جميع العقائد والملل. فهذا العصر عصر نورانيّ تفتّحت فيه العيون إلى وحدة الإنسانيّة وإلى المحبّة والإخاء. وسوف تزول ظلمات الاختلاف والاعتساف وتشرق أنوار الوفاق والاتّحاد. نعم، إنّه لا يمكننا أن نؤسّس هذه الوحدة ونجلب هذه المحبّة بمجرّد القول. والعلم بها وحده لا يكفي. ونحن نعلم أنّ الثّروة والعلم والتّربية أمور حسنة، ولكن لا بدّ لنا من أن نعمل وندرس حتّى تنضج ثمرة العلم.

فالعلم هو الخطوة الأولى، والعزم والتّصميم هما الخطوة الثّانية، والعمل وإنجازه هما الخطوة الثّالثة. فإذا أردنا إقامة بناء وجب علينا أوّلاً أن نرسم خطة له، ثمّ أن تكون لدينا القدرة على إقامته، عندئذ نستطيع أن نباشر البناء. وقد تتأسّس جمعيّة للاتّحاد، وهذا حسن إذا تمّ إلاّ أنّ الاجتماع والمناقشة لا يكفيان. ومثل هذه الاجتماعات تتمّ في مصر ولكن ليس هناك سوى الأقوال دون نتائج تعقبها. والاجتماعات الّتي تجري هنا في لندن حسنة؛ والمعرفة والنّوايا حسنة أيضًا، ولكن كيف يمكن أن تتأتّى النّتائج دون عمل؟ وقوّة الاتّحاد اليوم هي روح قدس بهاء الله. فهو قد أظهر روح الاتّحاد وهو الّذي يجمع الشّرق والغرب معًا. عودوا إلى التّاريخ ودقّقوا فيه فلن تجدوا لذلك مثيلاً.

خلق الله العالم عالمًا واحدًا. أمّا الحدود فمن عمل الإنسان ذلك لأنّ الله لم يقسّم الأرض بل خلق العالم وطنًا واحدًا، ولذلك قال حضرة بهاء الله: "ليس الفخر لمن يحبّ الوطن بل لمن يحبّ العالم" فالجميع عائلة واحدة وجنس واحد. والجميع بنو آدم. وتقسيم الأرض لا يستلزم الاختلاف ولا التّفرقة.

ومن أعظم الاختلافات اختلاف الألوان والتّعصب لها كما هي الحال في أمريكا. فهناك يبغض بعضهم بعضًا بسبب اللّون. مع أنّ الحيوانات لا تتنازع مع بعضها البعض بسبب اللّون. فكيف يتدنّى الإنسان عن درجة الحيوان بهذه الجهالة، مع أنّ الإنسان أشرف منها خلقًا. فنحن نرى الحيوانات المختلفة الألوان تعيش مع بعضها البعض متآلفة، ولا تتنازع بسبب اختلاف اللّون. فما بال الرّجل الأبيض يقاتل الأسود؟ حقًّا إنّ هذا لأسوأ ألوان التّعصّب. ففي التّوراة ورد أنّ الله خلق آدم على صورته. وفي القرآن الحكيم ورد: "ما ترى في خلق الرّحمن من تفاوت فأرجع البصر هل ترى من فطور؟" خلق الله الخلق وحفظهم وربّاهم بشديد القوى. فالسّياسة الإلهيّة أعلى وأجلّ من السّياسة البشريّة، وإنّه لأحكم الحاكمين. ولا نكاد نصل إلى حكمته البالغة. وأكثر الّذين لم يسمعوا عن هذه التّعاليم يظنّون أنّ الدّين نظام واجب الاحترام فقط. ومن القسس من يمارس مهنته كسبًا للعيش ولا يعتقد في ما يعلمه للنّاس. فهل يضحّي أمثال هؤلاء بحياتهم من أجل الدّين؟ سل واحدًا من هذا النّوع أن ينكر السّيّد المسيح إبقاءً على حياته، فسوف تراه لا يتردّد في ذلك! وسل بهائيًّا أن ينكر أحدًا من الرّسل العظام، أو أن ينكر دينه أو ينكر موسى أو محمّدًا أو المسيح فسوف يجيبك: إنّني أفضّل الموت على ذلك. ومن ثمّ كان البهائيّ من أصل إسلامي، مسيحيًّا أفضل من كثير ممّن يدَّعون أنّهم مسيحيّون.

إنّ البهائيّ لا ينكر أيّ دين. وإنّما هو يؤمن بالحقيقة الكامنة فيها جميعًا، وهو يضحّي بنفسه من أجل التّمسك بها. وهو يحبّ النّاس جميعًا كأخوته مهما كانت طبقتهم أو جنسهم أو تبعيّتهم، ومهما كانت عقائدهم وألوانهم، وسواء كانوا فقراء أم أغنياء، صالحين أم طالحين. وهو لا يغلظ ولا يعنّف، فإذا ضُرِب لا يضرب. وهو لا يرى شيئًا قبيحًا مقتديًا في ذلك ببهاء الله. ولا يشرب البهائيّ الخمر ولا المشروبات الرّوحيّة حتّى لا يخرج عن الاعتدال. ولقد قال حضرة بهاء الله "ليس للعاقل أن يشرب ما يذهب به العقل".

إنّ دين الله في هذا العالم ذو وجهين: الوجه الرّوحانيّ الحقيقيّ والوجه الصّوريّ الظّاهري. فالوجه الصّوريّ يتغيّر كما يتغيّر الإنسان في أدوار عمره ويتشكّل بصور مختلفة. ولكنّ الوجه الرّوحانيّ الحقيقيّ لا يقبل التّغيير: فجميع الأنبياء والرّسل أتوا بتعاليم واحدة. وفي البداية يتعلّق النّاس بالحقيقة، ثمّ ما يلبث أن يتغيّر شكل الحقيقة، فتضمحلّ بسبب ما يدخل عليها من البدع والقوانين الوضعيّة فتحتجب بحجب المادّة والأمور الدّنيويّة.

وكما جاء موسى وعيسى برسالتهما للنّاس كذلك جاء بهاء الله بالرّسالة نفسها. وفي كلّ مرّة نتلقّى فيها رسالة جديدة على يد رسول عظيم نُعطى حياة جديدة إلاّ أنّ الحقيقة الّتي يأتي بها كلّ رسول واحدة. إذ إنّ الحقيقة لا تتغيّر قط، ولكنّ أنظار النّاس هي الّتي تتغير. فيظلم نور الحقيقة وتختلط بما يتسرّب إليها من الأمور الدّنيويّة الوضعيّة.

إنّ فهم الحقّ أمر سهل، ولكنّ الصّور الظّاهريّة المختلفة الّتي تمتزج بالحقّ هي الّتي يشكل أمرها على العقل. وكلّما ارتقى الإنسان رأى تفاهة الصّورة الوضعيّة واحتقرها. ومن ثمّ نجد كثيرًا من النّاس يهجرون الكنيسة لأنّها غالبًا ما تهتمّ بالأمور الصّوريّة الظّاهريّة.

المصادر
المحتوى
OV