الحروفات العاليات (الجزء العربي)

حضرة بهاء الله
أصلي عربي

الحروفات العاليات (الجزء العربي) – حضرة بهاءالله – كتاب تسبيح وتهليل، الصفحة ٢٤٢

﴿ هُوَ هُوَ ﴾

سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ يا إِلَهي. كَيْفَ يَتَحرَّكُ القَلَمُ وَيَجْرِي المِدَادُ بَعْدَ مَا انْقَطَعتْ نَسَائِمُ الوِدَادِ وَأَشْرَقَتْ شَمْسُ القَضَاءِ مِنْ أُفُقِ الإِمْضَاءِ. وَخَرَجَ سَيْفُ الْبَلاَءِ مِنْ غِمْدِ البَدَاءِ. وَارْتَفَعتْ سَمَاءُ الأَحْزَانِ وَنَزَلَ مِنْ سَحَابِ القَضَاءِ رِمَاحُ الافْتِتَانِ وَسِهَامُ الانْتِقَامِ. بِحَيْثُ أَفَلَتْ أَنْجُمُ السُّرُورِ فِي قُلُوبِ أَحِبَّائِكَ وَانْعَدَمَتْ مَقَادِيُر الْبَهْجَةِ فِي أَفْئِدَةِ أَصْفِيَائِكَ وَتَتَابَعَتِ الرَّزَايَا حَتَّى وَصَلَتْ إِلَى مَقَامٍ لَنْ يَقْدِرَ أَحَدٌ أَنْ يَحْمِلَهَا وَلَنْ تَطِيقَ نَفْسٌ أَنْ تَقْرُبَهَا، بحَيْثُ أُغْلِقَتْ أَبْوَابُ الرَّجَاءِ وَانْقَطَعتْ نَسَائِمُ الوَفَاءِ وَهَاجَتْ رَوَائِحُ الفَنَاءِ. وَعِزَّتِكَ يَبْكِي القَلَمُ وَيَضُجُّ المِدَادُ. وَانْصَعَقَ اللَّوْحُ وَارْتَعَشَتِ الأَبْدَانُ وَانْهَدَمَتِ الأرْكَانُ، فآهٍ آهٍ عَمَّا قَضَى وَأَمْضَى وَذلِكَ مِنْ عِنايَتِكَ الأُولَى.

وَأَنْتَ الَّذِي أَوْقَدْتَ سُرُجَ المَحَبَّةِ فِي مِشْكَاةِ العِنَايَةِ وَرَبَّيْتَهَا بِدُهْنِ العِلْمِ وَالحِكْمَةِ. حَتَّى أَضَاَءَتْ وَاسْتَضَائَت. وَبِنُورِهَا أَشْرَقَتْ أَنْوَارُ أَحَديَّتِكَ فِي مِشْكَاةِ عِزِّ سَلْطَنَتِكَ، وَاسْتَحْكَمْتَ أَرْكَانُ بَيْتِ أَزَلِيَّتِكَ فِي رِيَاضِ قُدْسِ هُوِيَّتِكَ. وَحَفِظْتَهَا بِزُجَاجَةِ فَضْلِكَ وَبِلَّوْرِ رَحْمَتِكَ لِئَلاَّ تَهُبَّ عَلَيْهَا الأَرْيَاحُ المُكَدِّرَةِ. وَبَعْدَ ذَلِكَ أَقْمَصْتَهَا بِقَمِيصِ جُوْدِكَ وَرَأْفَتِكَ. وَأَظْهَرْتَهَا مِنْ مَلَكُوتِ صِفَاتِكَ عَلَى هَيْكَلِ أَسْمَائِكَ، فَلَمَّا تَمَّ خَلْقُهَا وَطَابَ خُلْقُهَا هَبَّتْ عَلَيْهَا أَرْيَاحُ الفَنَاءِ وَانقْطَعَتْ عَنْهَا نَسَماتُ البَقَاءِ، حَتَّى أُخِذَتْ حَيَاتُهَا وَانْكَسَرَتْ مِشكَاتُهَا وَفَنَتْ أَنْوَارُهَا. فَآهٍ آهٍ عَمَّا قَضَى وَأَمْضَى وَذَلِكَ مِن قَضَايَاكَ الأُخْرَى.

كَيْفَ أَذْكُرُ يا إِلهِي بَدَائِعَ صُنْعِكَ وَأَسْرَارَ حِكْمَتِكَ بِحَيْثُ خَلَقْتَ مِن جَوَاهِرِ النَّعْمَاءِ المَاءَ الدُّرِّيَّ البَيْضَاءَ وَأَجْرَيْتَهُ مِن أَصْلابِ الآبَاءِ، وَنَقَلْتَهُ مِنْ صُلْبٍ إِلَى صُلْبٍ حَتَّى انْتَهَى فِي ظَهْرِ أَحَدٍ مِنْ عِبَادِكَ. ثُمَّ نَزَّلْتَ هَذَا المَاءَ اللَّطِيفَ الصَّافِي فِي صَدَفِ أَمَةٍ مِنْ إِمَائِكَ وَرَبَّيْتَهُ فِيِه بِأَيادِي سِرِّكَ وَلَطَائِفِ رَأْفَتِكَ وَدَبَّرْتَهُ بِتَدَابِيرِ حِكْمَتِكَ. حَتَّى صَوَّرْتَهُ فِي بَطْنِ الأُمِّ عَلَى هَيْكَلِ التَّكْرِيِمِ وَأَحْسَنِ التَّقْويِمِ، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ أَخْرَجْتَهُ وَأَرْضَعْتَهُ وَأَنعَمْتَهُ وَغَذَّيْتَهُ وَسَقَيْتَهُ وَأَكْرَمْتَهُ وَأَعْلَيْتَهُ وَقَوَّمْتَهُ وَكَبَّرْتَهُ حَتَّى أَوْصَلْتَهُ إِلَى الغَايةِ الَّتِي لا غَايَةَ لَها فِي خَلْقِكَ وَالعُلُوَّ الَّذي لا مُنْتَهَى لَهُ فِي بَرِيَّتِك بِحَيْثُ عَرَّجْتَهُ إِلَى سَمَاءِ أَمْرِكَ وَهَواءِ عِزِّ قُدْسِكَ وَأَوْصَلْتَهُ إِلَى مَعَارِجِ الأَسْفَارِ بَيْنَ يَدَيْكَ وَقَطَّعْتَهُ عَنْ كُلِّ الْجِهَاتِ وَرَجَّعْتَهُ مِنْكَ إِلَيْكَ حَتَّى وَرَدَ عَلَيْكَ وَنَزَلَ بِكَ. وَلَكِنْ يا إِلهِي حِينَ وُرُودِهِ عَلَيْكَ عَرَّيْتَ جَسَدَهُ لأَنَّكَ مَا أَحْبَبْتَ غَيْرَهُ وَأَخْذتْ َثِيَابَهُ لأَنَّكَ مَا أَرَدْتَ دُونَهُ وَأَسْكَنْتَهُ فِي بَيْتٍ لَمْ يَكُنْ فِيِه مِنْ رَفِيقٍ وَلا مِنْ شَفِيقٍ وَلا مِنْ مُصَاحِبٍ وَلا مِنْ أَنِيسٍ وَلا مِنْ سِرَاجٍ وَلا مِنْ فِرَاشٍ. وَبَقِيَ فِيهِ مِسْكِينًا فَقِيرًا فَرِيدًا مُسْتَجِيرًا، فَآهٍ آهٍ بِذَلِكَ انْقَطَعَتْ نَسَائِمُ الشَّرفِ عَنْ طَرَفِ البَقاءِ وَكَلَّتْ وَرْقَاءُ الأَمْرِ عَنْ نَغَمَاتِ الوَفَاءِ وَشَقَّ الوُجُودُ عَنْ هَيْكَلِهِ الثِّيَابَ الصَّفْرَاءَ. وَأَلْقَتِ الحُورُ عَلَى وَجْهِهِا الرَّمَادَ وَبَكَتْ عُيونُ العَظَمَةِ فِي سَرَائِرِ الإِمْكَانِ بِالمَدَامِعِ الحَمْرَاءِ. فَآهٍ آهِ قَضَى مَا أَمْضَى وَذَلِكَ مِنْ مَصَائِبِكَ الكُبْرَى.

سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ يا إِلهِي، بَعْدَ مَا أَصْعَدْتَهُ إِلَى مَيَاديِنِ الهَاءِ عَرْشِ البَقَاءِ وَفَنَائِهِ عَنْ نَفْسِهِ وَبَقَائِهِ بِالنُّورِ الأَعْلَى فِي رَفَارِفِ البَدَاءِ وَوُصُولِهِ إِلَيهِ وَعِرْفَانِهِ نَفْسَهُ وَإِبْلاَغِهِ نوُرَهُ وَإِدْرَاكِهِ جَمَالَهُ سَقَيْتَهُ مِنْ بَدَائِعِ العُيُونِ الصَّافِيةِ مِنْ جَوَاهِرِ عِلْمِكَ الْمَكْنُونَةِ وَأَلْبَسْتَهُ مِنْ رِدَاءِ الهُدَى. وَأَشْرَبْتَهُ مِنْ كُؤُوسِ التُّقَى حَتَّى سَمِعَ نَغْمَةَ الوَرْقَاءِ فِي مَرْكَزِ العَمَاءِ. وَوَقَفَ عَلَى المَنْظَرِ الأَكْبَرِ وَقَامَ لَدَى حَرَمِ الكِبْرِيَاءِ وَاسْتَمْسَكَ بِالعُرْوَةِ الصَّفْرَاءِ فِي البُقْعَةِ الحَمْرَاءِ وَاسْتَغْنى بِكَيْنُونَتِهِ وَاسْتَبْقَى بِذَاتِيَّتِهِ وَشَاهَدَ بِعَيْنهِ مَا شَاهَدَ وَعَرَفَ بِقَلْبِهِ مَا عَرَفَ وَعَرَجَ بِتَمامِهِ إِلَى المَقَامِ الَّذِي لَنْ يَسبْقَهُ أَحَدٌ فِي حُبِّهِ إِيَّاكَ، وَرِضَائِهِ فِي قَضَائِكَ وَتَسْلِيمِهِ فِي بَلائِكَ، وَكَانَ فِي ذَلِكَ الشَّأْنِ الأَعْلَى وَالمَقَامِ الأَعَزِّ الأَوْفَى حَتَّى نَفَخْتَ عَلَيْهِ مِنْ نَفَحَاتِ قَضَائِكَ وَأَرْيَاحِ بَلاَئِكَ. وَأَخذْتَ مِنْهُ كُلَّ مَا أَعْطَيْتَهُ بِجُودِكَ، بِحَيُثُ مُنِعَتْ رِجْلاهُ عَنِ المَشْيِ وَيَدَاهُ عَنِ الأَخْذِ وَبَصَرُهُ عَنْ مُشَاهَدَةِ جَمَالِكَ وَسَمْعُهُ عَنْ اسْتِمَاعِ نَغَمَاتِكَ وَقَلْبُهُ عَنْ عِرْفَانِ مَوَاقِعَ تَوْحِيدِكَ وَفُؤَادُهُ عَنْ الإِيِقَانِ بِمَظَاهِرِ تَفْريدِكَ وَمَا اكْتَفَيْتَ بِذَلِكَ حَتَّى نَزَعْتَ عَنْهُ خِلَعَ عِنَايَتِكَ وَنَزَّلْتَهُ مِنْ قُصُوِرِ العِزَّةِ إِلَى تُرَابِ الذِّلَّةِ وَمِنْ مَخْزَنِ الغِنَى إِلَى مَكْمَنِ الفَقْرِ وَسَكَنَ فِي بَاطِنِ الأَرْضِ وَحِيدًا غَرِيبًا عُرْيَانًا مَحْرُومًا مَهْجُورًا، فَآهٍ آهٍ عَمَّا قَضَى وَأَمْضَى وَذَلِكَ مِنْ رَزِيَّتِكَ الكُبْرَى.

وَأَنْتَ الَّذِي أَغْرَسْتَ شَجَرَةً طَيِّبَةً فِي أَرْضٍ مُبَارَكَةٍ لَطِيْفَةٍ وَأَشْرَبْتَهَا مَاءَ الكَافُورِ مِنْ عُيُونِ الظُّهُورِ وَرَبَّيْتَهَا بِاقْتِدَارِ سَلْطَنَتِكَ وَحَفِظْتَهَا بِأَيْدِي قُدْرَتِكَ حَتَّى ارْتَفَعَتْ وَعَلَتْ وَجَعَلَتْ أَصْلَهَا ثَابِتًا فِي أَرْضِ مَشِيئَتِكَ بِاسْمٍ مِنْ أَسْمَائِكَ، وَفَرْعَهَا فِي سَمَاءِ إِرَادَتِكَ وَاسْتَقَرَّتْ وَارْتفَعَتْ وَصَارَتْ ذَاتَ أَفْنَانٍ مُتَعَالِيَةٍ وَذَاتَ أَغْصَانٍ مُرْتَفِعَةٍ وَذَاتَ دَوْحَةٍ قَوِيَّةٍ وَذَاتَ قُضْبَانٍ مَنيِعَةٍ عَظِيمَةٍ وَسَكَنَتْ عَلَى أفْنَانِهَا أَرْوَاحُ عِزِّ هُوِيَّتِكَ وَرَقَدَتْ عَلَى أَغْصَانِهَا حَمَامَاتُ قُدْسِ أَزَلِيَّتِكَ، وَقَفَصَاتُ النُّورِ عَليْهَا مُعَلَّقَاتٌ، وَفِيهَا مِنْ طُيُورِ العِزِّ مُغَنِّيَاتٍ، وَحَمَامَاتِ القُدْسِ مُغَرِّدَاتٍ، كُلُّهُنَّ يَذْكُرْنَ اللهَ رَبَّهُنَّ بِاللِّسَانِ البَدِيِعِ فِي الأَلْحَانِ وَبِالكَلِمَةِ المَنيِعَةِ عَلَى الأَغْصَانِ. وَمِنْ نَغَمَاتِهِنَّ تَوَلَّهَتْ أَفْئِدَةُ المُخْلِصِينَ وَاسْتَقَرَّتْ أَنْفُسُ المُقَرَّبِينَ، فَلَمَّا بَلَغَتْ إِلَى أَعْلَى مَقَامِهَا أَخَذَتْهَا صَوَاعِقُ قَهْرِكَ وَقَوَاصِفُ بَلِيَّتِكَ حَتَّى كُسِرَتْ أَغْصَانُهَا وَاصْفَرَّتْ أوْرَاقُهَا وَسَقَطَتْ أَثْمَارُهَا وَانْكَسَرَتْ أَقْفَاصُهَا وَطَارَتْ طُيوُرُهَا حَتَّى وَقَعَتْ بِأَسْرِهَا وَأَصْلِهَا وَفَرْعِهَا. كَأَنَّهَا مَا غُرِسَتْ وَمَا خُلِقَتْ وَمَا ظَهَرَتْ وَمَا عَلَتْ وَمَا رُفِعَتْ. فآهٍ آهٍ قَضَى وَأَمْضَى وَذَلِكَ مِنْ اقْتِدَارِ سَلْطَنَتِكَ العُظْمَى.

وَأَنْتَ الَّذِي نَزَّلْتَ حُكْمَ القُدْرَةِ مِنْ جَبَروتِ العِزَّةِ وَأَشْرَقَ بِإِذْنِكَ حُكْمُ القَضَاءِ بِالإِمْضَاءِ فِي مَلَكُوتِ البَدَاءِ لاسْتِواءِ بُقْعَةِ العَظَمَةِ عَلَى أَوْتَادٍ مِنَ الحَديدَةِ المُحْكَمَةِ المُتْقَنَةِ، وَسَوَّيْتَهَا مِنْ تُرَابِ العِنَايَةِ مِنَ جَنَّةِ أَزَلِيَّتِكَ. وَبَنَيْتَهَا عَلَى أَرْبَعَةِ أَرْكَانٍ مِن هَيَاكِلَ عِزِّ أَحَديَّتِكَ. وَزَيَّنْتَهَا بِشُمُوسِ صَمَدَانِيَّتَكَ. وَطَرَّزْتَهَا مِنْ صَافِي ذَهَبِ مرْحَمتِكَ. وَجَعَلْتَ أَبْوَاَبَهَا مُزَيَّنَةً مِنَ اليَاقُوتَةِ الْحَمْرَاءِ فِي اسْمِكَ العَلِيِّ الأَعْلَى، وَجِدَارَهَا مُرَصَّعًا مِن لآلِئِ صِفَاتِكَ العُلْيَا فِي ذِكْرِكَ الأَكْبَرِ الأَبْهَى، وَجَعَلْتَ سَقْفَهَا وَعَرْشَهَا مِنَ الأَلْمَاسِ الرَّطِبِ الأَصْفَى فِي الذَّكْرِ الأَتَمِّ الأَقْدَمِ الأَوْفَى، سُبْحَانَ اللهِ خَالِقِهَا وَمُوجِدِهَا وَمُظْهِرهَا وَمُقَدِّرِهَا. وَبَعْدَ بُلُوغِهَا إِلَى غَايَتِهَا وَظُهُورِهَا عَلَى أَحْسنِ خَلْقِهَا كَانَتْ بَاقِيةً إِلَى أَنْ تَمَّ مِيقَاتُهَا إِذًا ارْتَفَعَتْ سَمَاءُ بَلاَئِكَ فِي لاهُوتِ سَطْوَتِكَ وَنَطَقَتْ عَلَيْهَا مَلاَئِكَةُ قَهْرِكَ بِكَلِمَةِ بَطْشِكَ، تَحَرَّكَ أَسَاسُ البَيْتِ حَتَّى وَقَعَتْ أَرْكَانُهَا وَسَقَطَتْ عُرُوشُهَا وَانْهَدَمَتْ أَبْوَابُهَا وَانْعَدَمَ جِدَارُهَا وَمَّحَتْ عَلامَتُهَا كَأَنَّهَا مَا بُنِيَتْ عَلَى أَرْضِكَ وَمَا رُفِعَتْ فِي دِيارِكَ وَمَا ظَهَرَتْ فِي بِلاَدِكَ بِحَيْثُ تَفَرَّقَ تُرَابُهَا وَنُسِيَ ذِكْرُهَا وَمَّحَتْ آثَارُهَا. فآهٍ آهٍ قَضَى مَا أَمْضَى وَذلِكَ مِنْ بَدَائِعِ تَقْدِيرِكَ الأَعْلَى وَلَكَ الْحَمْدُ عَلَى حُسْنِ قَضَائِكَ الأَحْلَى.

وَعِزَّتِكَ يَا إِلَهِي لَا أَشْكُو إِلَيْكَ فِيِمَا وَرَدَ مِنْ عِنْدِكَ وَنُزِّلَ مِنْ جَنَابِكَ، بَلْ أَسْتَغْفِرُكَ فِي كُلِّ مَا ذَكَرْتُ وَحَكَيْتُ وَنَطَقْتُ مِنْ اجْتِرَاحَاتِي الَّتِي لَنْ تَحْكِيَ إِلَّا عَنْ غَفْلَتِي مِنْ ذِكْرِكَ وَإِعْرَاضِي عَنْ رِيَاضِ قُرْبِكَ، لأَنِي عَرَفْتُ مَوَاقِعَ حِكْمَتِكَ وَاطَّلَعْتُ عَلَى تَدَابِيرِ عِزِّ رُبُوبِيَّتِكَ وَأَيْقَنْتُ بِأَنَّكَ بِسُلْطانِ فَضْلِكَ لَنْ تُعَامِلَ بِعِبَادِكَ إِلَّا مَا يَنْبَغْيِ لِعِزِّ جَلالِكَ وَيَليِقُ لِبَدَائِعِ إِفْضَالِكَ وَمَا قُضِيَ حُكْمُ الرُّجُوعِ مِنْ أُفُقِ قُدْرَتِكَ وَجَبَرُوتِ إِرَادَتِكَ إِلَّا بِمَا يُوصِلُ العِبَادَ إِلَى غَايَةِ فَضْلِكَ وَمُنْتَهَى مَرَاتِبِ جُوْدِكَ وَفَيْضِكَ. وَاعْلَمْ بِأَنَّ الَّذِي عَرَجَ إِلَيْكَ وَنَزَلَ عَلَيْكَ ارْتَقَى إِلَى سَمَواتِ عِزِّ أَزَلِيَّتِكَ وَسَكَنَ فِي جِوَارِ قُدْسِ رُبُوبِيَّتِكَ وَاسْتَقَرَّ عَلَى كُرْسِيِّ الافْتِخَارِ عِنْدَ إِشْرَاقِ أَنْوَارِ جَمَالِكَ وَرَقَدَ فِي مَهْدِ البَقَاءِ لَدَى ظُهُورِ عِزِّ أُلُوِهِيَّتِكَ. كَأنِّي أُشَاهِدُ فِي هَذَا الْحِينِ بَأَنَّهُ يَطِيرُ بِجَنَاحَيِ العِزَّةِ فِي هَوَاءِ قُدْسِ مَرْحَمَتِكَ وَيَسِيرُ فِي مَدَائِنِ روُحِ أَحَدِيَّتِكَ وَيَشْرَبُ عَنْ كُأُوبِ وَصْلِكَ وَلِقَائِكَ وَيَغْتَذي بِنَعْمَاءِ قُرْبِكَ وَوِصالِكَ، فَيَا رُوحِي لِذَلِكَ الشَّرَفِ الأَبْهَى وَالعِنَايَةِ الكُبْرَى. وَإِنَّكَ لَمَّا أَخْفَيتَ عَنْ بَرِيَّتِكَ مَا كَشَفْتَهُ لِعَبْدِكَ لِذَا صَعُبُ عَلَى العِبَادِ حُكْمُ الفِرَاقِ وَمْستَصعْبٌ عَلَى الأَرِقَّاءِ ظُهْورُ الفَضْلِ مِنْ أُفُقِ الطَّلاَقِ وَعِزِيزٌ عَلَى الأَحِبَّاءِ ظَهُورُ الفَنَاءِ فِي هَيَاكِلِ البَقَاءِ وَبِذَلِكَ نُزِّلَ عَلَى أَحِبَّائِكَ مَا نُزِّلَ بِحَيْثُ لَنْ يُحْصيَهُ أَحَدٌ وَلَنْ تُحِيطَهُ نَفْسٌ وَلَنْ تُطِيقَهُ أَفْئِدَةٌ وَلَنْ تَحْمِلَهُ عُقُولٌ. وَمِنْهَا هَذِهِ الرَّزِيَّةُ النَّازِلَةُ وَهَذِهِ الْمُصِيبَةُ الْوَارِدَةُ الَّتِي بِهَا احْتَرَقَتْ الأَكْبَادُ وَاشْتَعَلَ العِبَادُ وَاضْطَرَبَتِ البِلاَدُ وَمَا بَقَتْ مِنْ عَيْنٍ إِلَّا وَقَدْ بَكَتْ وَمَا مِنْ رَأْسٍ إِلَّا وَقَدْ تَعَرَّى وَمَا مِنْ نَفْسٍ إِلَّا وَقَدْ تَبَلْبَلَتْ وَمَا مِنْ فُؤَادٍ إِلَّا وَقَدْ تَكَدَّرَ وَمَا مِنْ نُورٍ إِلَّا وَقَدْ أَظْلَمَ وَمَا مِنْ رُوحٍ إِلَّا وَقَدِ انْقَطَعَ وَمَا مِنْ سُرُورٍ إِلَّا وَقَدْ تَبَدَّلَ. فَآهٍ آهٍ عَمَّا قَضَى وَأَمْضَى وَذلِكَ مِن قَضَائِكَ المُثْبَتِ فِي الشَّجَرَةِ الحَمْرَاءِ.

وَإِنَّكَ أَنْتَ يَا إِلَهِي وَمَحْبُوبِي وَرَجَائِي تَعْلَمُ بِأَنَّ الرَّزَايَا قَدْ أَشْرَقَتْ مِنْ أُفُقِ القَضَاءِ وَأَحَاطَتِ الإِمْكَانَ وَمَا فِيِه وَغَلَبتِ الأَكْوَانَ وَمَا لهَا وَبِها وَلَكِنِ اخْتَصَصْتَهَا فِي هَذِهِ الأَزْمَانِ لِلطَّلْعَتَيْنِ وَسَمَّيْتَ أُولاَهُمَا بِاسْمِ الَّتِي اخْتَصَصْتَهَا وَجَعَلْتَهَا أُمَّ الْخَلاَئِقِ أَجْمَعِينَ والأُخْرَى بِاسْمِ الَّتِي اصْطَفَيْتَهَا عَلَى نِسَاءِ العَالَمِينَ وَنَزَّلْتَ عَليْهِمَا حِينَ إِذْ لَمْ تَكُنْ لَهُمَا مِنْ أُمٍّ لِتَشُقَّ ثِيَابَهَا أَوْ تُلْقِيَ الرَّمَادَ عَلَى رَأْسِهَا أَوْ تُوافِقُ مَعَهُما أَوْ تَبْكِي بِمَا وَرَد عَلَيْهِمَا أَوْ تُعَرِّيَ رَأْسَهَا بِمَا نُزِّلَ بِهِمَا وَلاَ لَهُمَا مُؤْنِسَاتٌ لِيَأْنَسْنَ بِهِمَا وَيَمْنَعْنَهُمَا عَنْ بُكَائِهِمَا وَلا مُصَاحِبَاتٌ ليُجَفِّفْنَ الدُّمُوعَ عَنْ خَدَّيْهِمَا وَلا بَتُولاَتٌ لِيَسْتُرْنَ شَعْرَاتِهِمَا وَلاَ مُشْفِقَاتٌ ليُسَكِّنَّ اضْطِرَابَهُمَا أَو يَبْكِيَنَّ فِي مَصَائِبِهمَا أَوْ يُخَضِّبَنَّ أَيْدِيْهِمَا أَوْ يُمَشِّطْنَ شَعْرَاتِهِمَا بَعْدَ عَزَائِهِمَا. إِذًا يَا إِلهِي لَمَّا قَضَيْتَ بِأَمْرِكَ مَا قَضَيْتَ وَأَمْضَيْتَ بِحُكْمِكَ مَا أَمْضَيْتَ فَأَكْرِمْهُمَا ثُمَّ أَلْبِسْهُمَا مِنْ ثِيَابِ الحَرِيرِ وَالحُلَلِ المُنِيرَةِ عَلَى كَلِمَةِ التَّكْبِيِر لِتَقَرَّ عَيْنَاهُمَا بِبَدَائِعِ رَحْمَتِكَ وَيَتَبَدَّلَ حُزْنُهُمَا بِجَوَاهِرِ سُرُورِكَ وَأَنْوَارِ النُّورِ فِي مَشْرِقِ طُورِكَ. ثُمَّ أَسْمِعْهُمَا نَغَمَاتِ هُوِيَّتِكَ مِنْ سِدْرَةِ عِزِّ أَزَلِيَّتِكَ وَدَوْحَةِ قُدْسِ أَحَدِيَّتِكَ وَالتَّرَنُّمَاتِ الَّتِي تَنْصَعِقُ العُقُولُ مِنْ اسْتِمَاعِهَا وَتَهْتَزُّ النُّفُوسُ لَدَى ظُهُورِهَا وَتَنْجَذِبُ الأَرْوَاحُ عِنْدَ بُرُوزِهَا، ثُمَّ ارْزُقْهُمَا مِنْ أَثْمَارِ شَجَرَةِ رَبَّانِيَّتِكَ وَأَذِقْهُمَا خَمْرَ الحَيَوَانِ مِنْ عُيُونِ صَمَدَانِيَّتِكَ، ثُمَّ أَنْزِلْهُمَا فِي شَرِيعَةِ قُرْبِكَ وَمَدِيْنَةِ وَصْلِكَ وَأَسْكِنْهُمَا فِي جِوَارِ مَرْحَمَتِكَ فِي ظِلِّ حَدِيقَةِ لِقَائِكَ وَوِصَالِكَ، ثُمَّ أَفْرِغْ عَلَيْهِمَا صَبْرًا مِنْ عِنْدِكَ، ثُمَّ اجْعَلْهُمَا وَاللَّوَاتِي كُنَّ مَعَهُمَا مُتَّكِلاتٍ عَلَيْكَ وَمُنْقَطِعَاتٍ عَنْ دُونِكَ وَمَشْغُولاتٍ بِذِكْرِكَ وَمْؤَانِسَاتٍ بِاسْمِكَ وَمُشْتَاقَاتٍ لِجَمَالِكَ وَمُسْرِعَاتٍ إِلَى وَصْلِكَ وَلِقَائِكَ وَمَرْزُوقَاتٍ مِنْ كَأْسِ عَطَائِكَ وَطَائِفَاتٍ حَوْلَ ذَاتِكَ وَرَاقِدَاتٍ فِي مَهْدِ قُرْبِكَ وَطَائِرَاتٍ فِي سَمَاءِ حُبِّكَ وَمَاشِيَاتٍ فِي أَرَاضِي رِضَائِكَ وَرَاكِضَاتٍ إِلَى مَكْمَنِ أَنْوَارِكَ وَطَالِبَاتٍ حُسْنَ قَضَائِكَ وَرَاضِيَاتٍ عِنْدَ نُزُولِ بَلاَئِكَ وَصَابِرَاتٍ فِيْكَ وَرَاضِيَاتٍ عَنْكَ لِتَكُونَ أَبْصَارُهُنَّ مُنْتَظِرَةً لِبَدَائِعِ رَحْمَتِكَ وَقُلوبُهُنَّ مُتَرَصِّدَةً لِظُهُورِ مَكْرُمَتِكَ، لأَنَّهُنَّ مَا أَخَذْنَ لأَنْفُسِهِنَّ رَبًّا سِوَاكَ وَلاَ مَحْبوُبًا دُونَكَ وَلاَ مَقْصُودًا غَيْرَكَ. وأَسْأَلُكَ بِالَّذِي أَظْهَرْتَهُ مِنْ قَبْلُ وَتُظْهِرُهُ مِنْ بعْدُ بِأَنْ لا تَحْرِمَهُنَّ وَعِبَادَكَ عَنْ حَرَمِ كِبْرِيَائِكَ وَلاَ تَرُدَّهُمْ عَنْ أَبْوَابِ المَدِينَةِ الَّتِي نُزِّلَ فِي فِنَائِهَا كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ، وَقَامُوا لَدَى بَابِهَا وَمَا دَخَلُوا فِيهَا إِلَّا الَّذِينَ اخْتَصَصْتَهُمْ بِجُودِكَ وَجَعَلْتَهُم مَرَايَا نَفْسِكَ وَمَظَاهِرَ ذَاتِكَ وَمَطَالِعَ عِزِّكَ وَمَشَارِقَ قُدْسِك وَمَغَارِبَ رُوحِكَ وَمَخَازِنَ وَحْيِكَ وَمَكَامِنَ نُورِكَ وَبِحَارَ عِلْمِكَ وأَمْوَاجَ حِكْمَتِكَ، وَكَذَلِكَ كُنْتَ مُقْتَدِرًا عَلَى مَا تَشَاءُ وَحَاكِمًا عَلَى مَا تُرِيدُ وَإِنَّكَ أَنْتَ المُقْتَدِرُ القَيُّومُ، ثُمَّ أَصْعِدْ يَا إِلهي هَذَا الضَّيْفَ الَّذِي وَرَدَ عَلَيْكَ فَوْقَ مَا أَصْعَدْتَهُ بِجُودِكَ حَتَّى يَرِدَ فِي قِبَابِ العَظَمَةِ خَلْفَ سُرادِقَاتِ الأَحَدِيَّةِ فِي جِوَارِ اسْمِكَ الأَبْهَى وَذَاتِكَ العُلْيَا عِنْدَ الشَّجَرَةِ القُصْوَى وَجَنَّةِ المَأْوَى وَرُوُحِكَ الأَسْنَى لتأْخُذَهُ رَوَائِحُ القُدْسِ مِنَ النُّقْطَةِ الأُولَى وَالمَرْكَزِ الأَعْلَى وَالجَوْهَرِ الأَحْلَى لِيَدُورَ حَوْلَ جَمَالِهِ وَيَطُوفَ حَرَمَ كِبْرِيَائِهِ وَيَزُورَ نُورَ صِفَاتِهِ فِي كَعْبَةِ أَسْمَائِهِ، ثُمَّ أَلْبِسْهُ مِنْ خِلَعِ السُّرُورِ لِيَسْتُرَ بِذَلِكَ فِي مَلأِ الظُّهُورِ وَيَسْمَعَ لَحَنَاتِ القُرْبِ عَن شَجَرةِ الكَافُورِ لِتَنْطُقَ بِذَلِكَ الحَمَامَةُ البَيْضَاءُ بِلَحْنِ الجَذْبِ فِي هِذِهِ الوَرَقَةِ الحَمْرَاءِ وَفِي كُلِّ الأَشْجَارِ بِلَحْنِ الجَبَّارِ مِنْ هذِهِ الشُّعْلَةِ الموُقَدَةِ عَنْ هَذِهِ النَّارِ بِأَنَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ المَلِكُ المُقْتَدِرُ العَزِيزُ الجَبَّارُ وَبِأَنَّهُ هُوَ اللهُ العَزِيزُ المُهَيْمِنُ القَهَّارُ. وَعِنْدَ ذَلِكَ يَخْتُمُ القَوْلَ بِأَنِ الحَمْدَ للهِ المُتَفَرِّدِ القَدَّار، وَسَتَقْضِي يا إِلهِي مَا تَرَجَّى. وَهَذَا مِنْ عَطَائِكَ الأَتَمِّ الأَقْدَمِ الأَوْفَى.

المصادر
OV