
الشيخ أحمد بن زين الدين الاحسائي
حسب جوامع الكلم – المجلد الاول
طبع في مطبعة الغدير – البصرة
في شهر ربيع الاخر سنة 1430 هجرية
أمّا بعد فيقول العبد المسكين أحمد بن زين الدين أنّه قد أرسلَ إليَّ بعض الأخوان المخلصين من العلماء العارفين الطالبين للحق واليقين بمسئلتين يطلب جوابهما على سبيل الاستعجال مع كلال البال وتغيّر الأحوال فكتبت ما خطر من الجواب لذلك السؤال إذ لا يسقط الميسور بالمعسور وإلى اللّه ترجع الأمور
قال سلّمه اللّه تعالى : أنّ المصلّي حين يقول : ﴿ إيّاك نعبد وإيّاك نستعين ﴾ كيف يقصد المخاطب بخطابه وأي معنى يعقد قلبه عليه هل يقصد الذات الغير المدركة بصفة من صفاته الجمالية ولا الجلالية أم يقصد شيئا آخر وعلى التقديرين ربّما يصلّي الرجل وحين التكلّم بتلك الكلمتين لا يقصد شيئا وهو غافل ذاهل غير شاعر بقصد شيء فهل تصح صلاته أم لا؟
أقول اعلم إنّ اللّه سبحانه لا يدرك من نحو ذاته بكلّ اعتبار وإنّما يدرك بما تعرّف به لعبده فكلّ شيء يعرفه بما تعرّف به له فتشير العبارات إليه بما أوجدها عليه وتشير القلوب إليه بما ظهر لها به ولا سبيل إليه إلّا بما جعل من السبيل إليه وهو جلّ شأنه يظهر لكل شيء بنفس ذلك الشيء كما أنّه يحتجب عنه به وإلى ذلك الإشارة بقول عليّ (ع) : لا تحيط به الأوهام بل تجلّى لها بها وبها امتنع منها وإليها حاكمها وكل مظهر لك به فهو مقام من مقامات ذاته فيك وحرف من حروف ذاتك به فمن وصل الى رتبة قد ظهر سبحانه له فيها تبين له أنّ المطلوب وراء ذلك وانّ هذا الذي حسبه ايّاه ﴿ لم يجده شيئا ووجد اللّه عنده فوفّاه حسابه واللّه سريع الحساب ﴾ وهكذا واليه الاشارة بقول الحجة (ع) في دعاء رجب : ومقاماتك التي لا تعطيل لها في كل مكان يعرفك بها من عرفك لا فرق بينك وبينها الّا انّهم عبادك وخلقك فهذه المقامات هي التي دعاك اليها فيتوجّه اليها قلبك فيجده عندها كما يتوجّه وجه جسدك الى بيته الكعبة فيجده عندها وتعبّدك بان تدعوه بها وتعبده فيها بلا كيف ولا وجدان الّا لما اوجدك من ظهوره لك وانّه في كل مقام اقرب اليك من نفسك وليس ما وجدته ذاتا بحتا ولو كان ذاتا بحتا لجاز ان تدرك الذات البحت والذات البحت في الازل وانت في الامكان فيكون ما في الامكان بادراك الازل في الازل او ما في الازل بكونه مدركا للممكن في الامكان تعالى اللّه عن ذلك علوّا كبيرا والى ذلك اشار امير المؤمنين (ع) : إنّما تحد الأدوات أنفسها وتشير الالات الى نظائرها وقول الرضا (ع) : وأسماؤه تعبير وصفاته تفهيم وقول الصادق (ع) : كلّما ميّزتموه بأوهامكم في ادقّ معانيه فهو مثلكم مخلوق مردود عليكم وذلك لانه سبحانه هو المجهول المطلق والمعبود الحق فاذا قلت : ﴿ إيّاك نعبد ﴾ كنت قد قصدت شيئا مخاطبا وقيد الخطاب دلّك على مخاطب والمخاطب لا يدرك منه الّا جهة الخطاب كقولك يا قاعد لا تدرك من ذلك المدعو الّا جهة القعود وان كنت تعني الموصوف بالقعود لانّ الموصوف غيّب الصفة عند الواصف حتّى انّه عنده اقرب اليه من الصفة واظهر منها له لكن الواصف لا يدرك الّا جهة الصفة من الموصوف كما قال الرضا (ع) : واسماؤه تعبير وصفاته تفهيم
وبالجملة كلّ شيء لا يدرك اعلى من مبدئه وانت خلقت بعد اشياء كثيرة فلا تدرك ما وراء مبدئك ومع هذا تدرك انّك مخلوق وتدرك انّ للمخلوق خالقا وتدرك ان الخالق اوجدك بفعله الذي وصفته به وقلت خالق وتدرك انّ الخلق ايجاد وحركة وتدرك انّها حدثت من الفاعل وتدرك ان الفاعل هو المحدث للفعل وتدرك ان تلك الحركة الايجاديّة لم تكن قديمة ولم تنفصل من الذات بل انّما احدثت بنفسها فتكون جهة الصفة صفة الجهة ولا شيء مما ذكر قديم فلا تدرك الّا نظائرك في المخلوقية وهي الاثار ومع هذا فهي لا شيء الّا به فهو اظهر منها ايكون لغيرك من الظهور ما ليس لك حتّى يكون هو المظهر لك فهو اقرب اليك من نفسك فاذا قلت يا زيد كنت قد خاطبت شخصا ودعوته باسمه وهو غيره واشرت اليه والاشارة وجهتها غير ذاته لان ذاته ليست حيوانا ناطقا واشارة واسما ودعاء بل هذه غيره وهو غيرها مع انّك تخاطبه والخطاب وجهته غيره فافهم ما كرّرت وردّدت قال الرضا (ع) : كنهه تفريق بينه وبين خلقه وغيره تحديد لما سواه فانظر في زيد فانه حيوان ناطق لا غير ذلك ولا تدركه بنفس الحيوانية ونفس النطق وانّما تدركه بمظاهره من الخطاب والنداء والاشارة وغير ذلك وكلها غيره ومع هذا فلا تلتفت الى شيء منها وانّما يتعلّق قلبك بذات زيد ولكن تلك الاشياء التي قلنا انّها غيره هي جهة تعلّق قلبك به وجهة ظهوره لك فاذا عرفت هذا عرفت مطلوبك من عرف نفسه فقد عرف ربّه ﴿ سنريهم آياتنا في الافاق وفي أنفسهم حتى يتبيّن لهم انّه الحقّ ﴾ فاذا قلت : ﴿ إيّاك نعبد ﴾ فانت تعبد اللّه وتقصده بعبادتك لا غير على نحو ما قلنا لك وهو قوله تعالى : ﴿ وللّه الأسماء الحسنى فادعوه بها ﴾ هذا اذا توجهت وامّا اذا غفلت وذهلت فانه سبحانه لم يغفل ولم يذهل قال تعالى : ﴿ وما كنّا عن الخلق غافلين ﴾ وذلك اذا غفلت وذهلت فانّك حينئذ قد توجهت الى شيء من احوال الدنيا او الاخرة وهي كلها بالحقيقة ليست شيئا الّا بظهوره فيها فاذا غفلت عنه لم تغب عنه ولم يغب عنك قال الصادق (ع) في قوله تعالى : ﴿ أولم يكف بربّك أنّه على كلّ شيء شهيد ﴾ قال (ع) : يعني موجود في غيبتك وفي حضرتك فصلاتك صحيحة بمعنى انّها مجزية وقد تكون غير مقبولة بمعنى انّها غير موجبة للجنة وحدها بدون غيرها من الاعمال ووجه صحتها واجزائها انّك قد دخلت في الصلوة وانت مقبل عليه بنيّتك عند اوّل التكبير والّا لم تصحّ اصلا
فان قلت قد اتوجّه الى النيّة المعتبرة عند الفقهاء غير ملتفت الى ما يقصده العارفون قلت ان فعلك لما امرك به يلزمك منه امتثال امره ولو اجمالا كما يلزمك منه القرب اليه بذلك العمل ولو اجمالا كل ذلك توجّه اليه من حيث امر الّا ان مقام العابدين تحت مقام الموحّدين وكلّها مقامات المعبود سبحانه فهذا القصد في الحقيقة لا غفلة فيه ثم في باقي الصلوة يستمرّ القصد حكما واختلف الفقهاء في معناه فقال بعضهم هو الّا يحدث نيّة تنافي نية الصلوة وقال آخرون هو العزم وتجديده كلّما ذكرت والخلاف مبني على الخلاف في ان الموجود الحادث الباقي هل يحتاج في بقائه الى المؤثر ام لا والحق الاوّل في المسئلة الكلامية فالاصح الثاني في المسئلة الفقهية ووجه عدم مقبوليتها ان النية التي هي روح العمل كانت في الابتداء فعليّة فان اقبل على كل صلاته كانت بمنزلة توجّه الروح الى الجسد في تدبيره فهو حي مشعر مدبّر لاموره كما هو حالة اليقظة واذا كانت في باقي الافعال حكميّة كانت بمنزلة روح النائم في جسده هي مجتمعة في القلب فبشعاعها السفلي الذي هو وراءها وخلفها كانت متعلقة بالبدن واما وجهها فهو متوجّه الى جابلسا وجابلقا وهورقليا فمن جهة انّها في القلب كالنية الفعلية في التكبير وشعاعها السفلى في سائر البدن حالة النّوم كالنية الحكمية قلنا ان الصلوة صحيحة مجزية كما ان الانسان حالة النوم يصدق عليه انه حيّ ومن جهة غفلته عن النية فعلا في سائر الصلوة وانما في الباقي القصد الاول كالنائم قلنا انّها لم يستقلّ بالمقبولية الموجبة للجنّة بل لا بد من انضمامها الى ما يكمّلها كما ان النائم انّما نحكم له بالحيوة التي ينتفع بها بانضمامها الى حيوة اليقظة فافهم
قال سلمه اللّه تعالى : وقد روي عن جعفر الصادق (ع) انه قال : لقد تجلّى اللّه لعباده في كلامه ولكن لا يبصرون وروي انه كان يصلّي في بعض الايام فخرّ مغشيا عليه في اثناء الصلوة فسئل بعدها عن سبب غشيته فقال : ما زلت اردّد هذه الاية حتى سمعتها من قائلها قال بعض العارفين ان لسان الصادق (ع) كان في ذلك الوقت كشجرة الطور عند قول اني انا اللّه افيدوا ان هذا السماع من القائل اي معنى له فلو قيل ايّاي اعبد واياي استعن بقول ﴿ ايّاك نعبد وايّاك نستعين ﴾ فالقول قول العابد لا قول المعبود وهذا الاستماع بهذا الاذن الجسماني اي معنى له
اقول الحديث مشهور والادلة النقلية والعقلية تؤيّده ومعنى تجلّيه في كلامه ظهوره بكلامه في كلامه ومعنى ذلك انّ الكلام لا يقوم بدون ما يستند اليه وذلك المستند اليه هو جهة التكلم من المتكلم على حد ما سبق في المسئلة الاولى فراجع تفهم فمن اشعر بظهوره له فقد نفسه لانه عرفها وهو قول عليّ (ع) لكميل : جذب الاحدية لصفة التوحيد ومن لم يشعر جهل نفسه فكان الصادق (ع) لمّا اشعر بالتجلّي فقد نفسه اذ عرفها فخرّ مغشيّا عليه حيث لا يقدر على الاستقرار وكثيرا ما تكون هذه الحالة على جده (ص) والاوصياء (ع) لانه تجلّى له كما تجلّى لموسى (ع) الّا ان المتجلّي لموسى (ع) مثل سمّ الابرة من نور الستر وجعفر (ع) تجلى له جميع نور الستر ويجب معه ذلك وبيانه على ما ينبغي مما لا ينبغي لانه من علمهم (ع) المكنون وامّا على مذاق غيرهم فهو سهل وذلك لان الشيء لا يتقوم الّا بالوجود والماهيّة فهو مجموعهما لا احدهما فالوجود بدون ماهية لا يحسّ والماهيّة بدون وجود لا حيوة لها فليس احدهما شيئا الّا بالايجاد وشرط قبول الايجاد انضمام احدهما الى الاخر فالوجود وجه فعل اللّه والماهيّة نفس الوجود من حيث نفسه فاذا اشعر العبد بالتجلّي فانّما يشعر بوجوده والوجود نور اللّه قال (ع) : اتقوا فراسة المؤمن فانه ينظر بنور اللّه يعني بوجوده ولا يلتفت الى الماهية اصلا فينفكّ تركيبه في شعوره لا في ظاهره لانه لم يتجلّ للجبل فيقع لانّ القيام بالتماسك وقد فقد في غيبه وامّا مغشيا عليه فلانه ساجد تحت العرش بين يدي اللّه سبحانه قد استولى عليه نور الظهور كاستيلاء حرارة النار على الحديدة المحميّة فان النّار حقيقة هي الحرارة واليبوسة وهي لا تحسّ والحرارة التي ظهرت على الحديدة فانما هي من صفة النار وظهورها فظهرت النار بفعلها على الحديدة كما ظهر المتكلّم بكلامه على قلب الامام (ع) والظهور هو المرتبة الخامسة للذات فقول بعض العارفين انّ لسان الصادق (ع) كشجرة الطور مجاز او تمثيل للمجهول بالمعلوم والّا فشجرة الطور هي ثاني رتبة في الظهور للسان الصادق (ع) ولو قال شجرة الطور كلسان الصادق (ع) لكان كالصادق فقوله (ع) : حتى سمعتها من المتكلّم يراد به من المتكلّم ما اشرنا اليه في المسئلة السابقة وفي هذه من ظهور المتكلّم فيما يستند الكلام اليه من صفة فعله التي هي فعله بكلامه سبحانه له عليه السلام وهذا السماع هو في الحقيقة قابليّة الوجود التشريعي الذي هو روح التشريع الوجودي وهو ان تكون حقيقة الامام (ع) اذنا واعية للملك العلّام وقولك فلو قيل ايّاي اعبد الخ لا يصحّ هذا الكلام الّا اذا كان المتكلّم يتكلّم بما يخصّه لا بالمخاطب فانّه حينئذ يجري الكلام في حكاية المظهر فلا يصحّ ان يعني نفسه بالخطاب المحكي واذا كان المتكلّم يتكلّم بالمخاطب للمخاطب كان المخاطب هو النصف الاسفل من وجود الخطاب فلا يحسن ان يقال ايّاي اعبد فلا يتوجّه الخطاب الى الحاكي الّا بقرينة فالقول قول المعبود بالعابد فافهم
وأمّا قولكم أيّدكم اللّه تعالى : فهذا الاستماع بالاذن الجسماني الخ
فجوابه ان هذا الاستماع اعلى مراتبه فؤاده واذنه اذ ذاك الحقيقة الاولية التي هي فلك الولاية المطلقة ومقام او ادنى وبعده اذن قلبه وهي قاب قوسين ثم اذن روحه عند عروجه في الحجاب الاصفر حجاب الذهب الى ذلك المقصود الاكبر ثم اذن نفسه وهكذا الى اذن جسمه ثم اذن جسده فكل مقام سمع فيه كلام المتكلم من المتكلم هو مظهره لانه ظهر فيه وقد تقدّم ان معنى ظهر فيه ظهر به فافهم وقد اختصرنا الجواب اعتمادا على حسن الاستماع والفهم اللمّاع ولضيق الوقت واستعجال الجواب والحمد للّه رب العالمين
وفرغ من تسويدها العبد المسكين احمد بن زينالدين في السابع عشر من شهر ربيع الثاني سنة ١٢٢٤ والحمد للّه وحده تمت