الحَمْدُ للّهِ الَّذِيْ أَشْرَقَ على الفُؤَاد بِنُورِ الرِّشادِ وَنَوَّرَ القُلُوبَ بسُطُوعِ آياتِ القُدْسِ بِكُلِّ رَوْحٍ وسَدادٍ وَهَدى المُخْلِصِينَ إِلى مَعِينِ العِرْفانِ بِبَيِّناتٍ ظَهَرَتْ في حَقِيقَةِ الآياتِ والكَلِماتِ وأَخْرَجَ الطَّالِبينَ إِلى عالَمِ النُّورِ مِنْ بُحْبُوحَةِ الظُّلُماتِ، والصَّلاةُ والتَّحِيةُ والثَّناءُ على النُّورِ السَّاطِعِ في زُجاجَةِ القَلْبِ المُقَدَّسِ الطَّافِحِ بالبِشاراتِ، ونَزَلَ الرُّوحُ الأَمِينُ على فُؤَادِهِ بالآياتِ المُحْكَماتِ وآلِهِ الطِّيِّبِينَ الطَّاهِرِينَ أُولِي البَراهِينِ والحُجَجِ البالِغَةِ بَينَ المُمْكناتِ ووَسائِطِ فَيضِ الحَقِّ بَينَ المَوْجُوداتِ.
فاعْلَمْ يا أَيُّها الواقِفُ في صِراطِ اللّهِ والمُتَوَجِّهُ إِلى اللّهِ والمُقْتَبِسُ مِنْ أَنْوارِ مَعْرِفَةِ ٱللّهِ بأَنَّ الآيةَ المُبارَكةَ الَّتِي نُزِّلَتْ في الفُرْقانِ بِصَحِيحِ القُرْآنِ قَوْلَهُ تَعالى: ﴿مَا كَذَبَ الفُؤَادُ مَا رَأَى﴾ لَها سِرٌّ مَكْنُونٌ ورَمْزٌ مَصُونٌ وَحَقِيقَةٌ لامِعَةٌ وشُئُونٌ جامِعَةٌ وبَيِّناتٌ وَاضِحَةٌ وَحُجَّةٌ بالِغَةٌ على مَنْ فِي الوُجُودِ مِنَ الرُّكَّعِ السُّجُودِ، وَنَحْتاجُ في بَيانِ حَقِيقَتِها لِبَثِّ تَفاصِيل مِنْ مَوازينِ الإِدْراك عِنْد القَوْمِ وَشَرْحِها وَدَحْضِها حَتَّى يَظْهَرَ وَيَتَحَقَّقَ بالعَيانِ أَنَّ المِيزانَ الإِلهِيَّ هُوَ الفُؤَادُ ومَنْبَعُ الرَّشادِ، فاعْلَمْ بِأَنَّ عِنْد القَوْمِ مِنْ جَمِيعِ الطَّوائِفِ أَرْبَعَةَ مَوازينَ يَزِنُونَ بِها الحَقائِقَ والمَعانِيَ والمَسائِلَ الإِلهِيَّةَ، وكُلُّها ناقِصَةٌ لا تُرْوِي الغَلِيلَ ولا تَشْفِيْ العَلِيلَ، ولْنَذكُرْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْها ونُبَيِّنْ نَقْصَه وعَدمَ صِدقِهِ.
فَأَوَّلُ المَوازينِ مِيزانُ الحِسِّ وهذا مِيزانُ جُمْهُورِ فلاسِفَةِ الإِفْرَنْجِ في هذا العَصْرِ، ويقُولُونَ إنَّهُ مِيزانٌ تامٌّ كامِلٌ فَإذا حُكِمَ بِهِ بِشَيءٍ فَلَيسَ فِيهِ شُبْهَةٌ وارْتِيابٌ، والحالُ أَنَّ دَلائِلَ نَقْصِ هذا المِيزانِ واضِحَةٌ كالشَّمْسِ في رَابِعَةِ النَّهارِ، فَإنَّك إِذَا نَظرْتَ إِلى السَّرابِ تَراهُ ماءً عَذباً وشَراباً، وإِذَا نَظَرْتَ إِلى المَرايا تَرى فيها صُوَراً تَتَيقَّنُ أَنَّها مُحَقَّقَةُ الوُجُود والحالُ إِنَّها مَعْدُومَةُ الحَقِيقَةِ بَلْ هِيَ انْعِكَاساتٌ في الزُّجاجاتِ، وإِذَا نَظَرْتَ إِلى النُّقْطةِ الجَوَّالَةِ في الظُّلُماتِ ظَنَنْتَها دَائِرَةً أَوْ خَطًّا مُمْتَدًّا والحالُ إِنَّها لَيسَ لَها وُجُودٌ بَلْ يتَراءَى لِلأَبْصارِ، وإِذَا نَظَرْتَ إِلى السَّماءِ وَنُجُومِها الزَّاهِرَةِ رَأَيتَ أَنَّها أَجْرامٌ صَغِيرَةٌ والحالُ كلُّ واحِدةٍ مِنْها تَتَوازى أَمْثَالَ وأَضْعافَ كُرَةِ الأَرْضِ بآلافٍ، وتَرَى الظِّلَّ ساكناً والحالُ إنَّهُ مُتَحَرِّك، والشُّعاعَ مُسْتَمِرًّا والحَالُ إِنَّهُ مُنْقَطعٌ، والأَرْضَ بَسِيطَةً مُسْتَوِيَةً والحالُ إِنَّها كَرَوِيَّةٌ، فإِذا ثَبَتَ بِأَنَّ الحِسَّ الَّذِيْ هُوَ القُوَّةُ الباصِرَةُ حالُ كَوْنِها أَقْوَى القُوى الحِسِّيَّةِ ناقِصَةُ الميزانِ مُخْتَلَّةُ البُرْهانِ يَعْتَمَدُ عَلَيها في عِرْفانِ الحَقائِقِ الإِلهِيَّةِ والآثارِ الرَّحْمانِيَّةِ والشُّئُونِ الكَوْنِيَّةِ.
وأَماَّ المِيزانُ الثَّانِي الَّذِيْ اعْتَمَدَ عَلَيهِ أَهْلُ الإِشْراقِ والحُكَماءُ المَشَّاؤُونَ هُوَ المِيزانُ العَقْلِيُّ، وهكَذا سائِرُ طَوائِفِ الفَلاسِفَةِ الأُولى فِي القُرُونِ الأَوَّلِيَّةِ والوُسْطَى، واعْتَمَدُوا عَلَيهِ وقالُوا ما حَكَمَ بِهِ العَقْلُ فَهْوَ الثَّابِتُ الواضِحُ المُبَرْهَنُ الَّذِي لَيسَ فِيهِ رَيبٌ ولا شَكٌّ وَشُبْهَةٌ أَصلاً وقَطْعَاً، فهؤلاءِ الطَّوائِفُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ حالُ كوْنِهِمْ اعْتَمَدُوا على المِيزان العَقلِيِّ فاخْتَلَفُوا في جَمِيعِ المَسائِلِ وَتَشَتَّتَتْ آراؤهُمْ في كُلِّ الحَقائِقِ، فَلَوْ كانَ المِيزانُ العَقْلِيُّ هُوَ المِيزانُ العادِلُ الصَّادِقُ المَتِينُ لَمَا اخْتَلَفُوا في الحَقائِقِ والمَسائِلِ وما تَشَتَّتَتْ آراءُ الأَوائِلِ والأَواخِرِ، فَبِسَبَبِ اخْتِلافِهِمْ وَتَباينِهِمْ ثَبَتَ أَنَّ المِيزانَ العَقْلِيَّ لَيسَ بكَامِلٍ فإِنَّنا إِذا تَصَوَّرْنا مِيزاناً تامًّا لَو وَزنْتَ بها مائَةَ أَلْفَ نَسَمَةٍ ثَقْلاً لاتَّفَقُوا في الكَمِيَّةِ، فَعَدَمُ اتِّفاقِهِمْ بُرْهانٌ كافٍ وافٍ على اخْتِلالِ المِيزانِ العَقْلِي.
وَثالِثُهُ المِيزانُ النَّقْلِيُّ وهذا أَيضاً مُخْتَلٌّ فلا يَقْدرُ الإِنْسانُ أَنْ يعْتَمِدَ عَلَيهِ لأَنَّ العَقْلَ هُوَ المُدْرِك لِلنَّقْلِ ومُوَزِّنُ مِيزانِهِ، فإِذا كانَ الأَصْلُ مِيزانُ العَقْلِ مُخْتَلًّا فكَيفَ يُمْكنُ أَنَّ مَوْزُونَهُ النَّقْلِيِّ يُوافِقُ الحَقِيقَةَ وَيفِيدُ اليقِينَ؟ وَإِنَّ هذا أَمْرٌ واضِحٌ مُبِينٌ.
وأَمَّا المِيزانُ الرَّابِعُ فَهُوَ مِيزانُ الإِلْهامِ فالإِلْهامُ هُوَ عِبارَةٌ عن خُطُوراتٍ قَلبِيَّةٍ، والوَساوِسُ الشَّيطانِيَّةُ أَيضاً عِبارَةٌ عَنْ خُطوراتٍ تَتَتابَعُ على القَلْبِ مِنْ وارِداتٍ نَفْسِيَّةٍ، فإِذا خَطرَ بقَلْبِ أَحَد مَعْنى مِنَ المَعانِي أَوْ مَسْئَلَةٌ مِنَ المَسائِلِ فَمِنْ أَينَ يَعْلَمُ أَنَّها إِلهاماتٌ رَحْمانِيَّةٌ فلَعَلَّها وساوِسُ شَيطانِيَّةٌ.
فَإِذًا ثَبَتَ بِأَنَّ المَوازينَ المَوْجُودةَ بَينَ القَوْمِ كُلَّها مُخْتَلَّةٌ لا يُعْتَمَدُ عَلَيها في الإِدْراكاتِ بَلْ أَصْغاثُ أَحْلامٍ وظُنُونٌ وأَوْهامٌ لا يُرْوِى الظَّمآنَ ولا يُغْنِي الطَّالِبَ لِلْعِرْفانِ.
وأَمَّا المِيزانُ الحَقِيقِيُّ الإِلهِيُّ الَّذِيْ لا يخْتَلُّ أَبَداً ولا يَنْفَكُ يُدْرِكُ الحَقائِقَ الكلِّيَّةَ والمَعانِي العَظِيمَةَ فَهُوَ مِيزانُ الفُؤَادِ الَّذِيْ ذَكَرَهُ ٱللّهُ في الآيةِ المُبارَكَةِ، لأَنَّهُ مِنْ تَجَلِّياتِ سُطُوعِ أَنْوارِ الفَيضِ الإِلهِيِّ والسِّرِّ الرَّحْمانِيِّ والظُّهُورِ الوِجْدانِيِّ والرَّمْزِ الرَّبَّانِيِّ وإِنَّهُ لفَيضٌ قَدِيمٌ ونُورٌ مُبِينٌ وَجُودٌ عَظيمٌ، فإِذَا أَنْعَمَ ٱللّهُ بِهِ عَلى أَحَدٍ مِنْ أَصْفِيائِهِ وأَفَاضَ على المُوقِنينَ مِنْ أَحِبَّائِهِ عِنْدَ ذَلِكَ يَصِلُ إِلى المَقامِ الَّذِيْ قالَ عَلِيٌّ عَلَيهِ السَّلامُ: [لَوْ كُشِفَ الغطاءُ ما ازْدَدْتُ يقِيناً]، لأَنَّ النَّظَرَ والاسْتِدْلَالَ في غايةِ الدَّرَجَةِ مِنَ الضَّعْفِ والإِدْراك، فَإنَّ النَّتِيجَةَ مَنُوطَةٌ بِمُقْتَضِياتِ الصُّغْرى والكُبْرى فَمَهْما جَعَلْتَ الصُّغْرى والكُبْرى يَنْتُجُ مِنْهُما نَتِيجَةٌ لا يمْكنُ الاعتِمادُ عَلَيها حَيثُ اخْتَلَفَتْ آراءُ الحُكَماءُ، فَإِذًا يا أَيُّها المُتَوَجِّهُ إِلى ٱللّهِ طَهِّرِ الفُؤادَ عَنْ كُلِّ شُئُونٍ مانِعَةٍ عَنِ السَّدادِ فِي حَقِيقَةِ الرَّشادِ وَزِنْ كُلَّ المَسائِلِ الإِلهِيَّةِ بهذا المِيزانِ العادِلِ الصَّادِقِ العَظِيمِ الَّذِيْ بَيَّنَهُ ٱللّهُ في القُرْآنِ الحَكيمِ والنَّبَأِ العَظِيمِ، لِتَشْرَبَ مِنْ عَينِ اليَقِينِ وتَتَمَتَّعَ بِحَقِّ اليَقِينَ وتَهْتَديَ إِلى الصِّراطِ المُسْتَقِيمِ وتَسْلُكَ في المِنْهَجِ القَوِيمِ والحَمْدُ للّهِ رَبِّ العالَمِينَ (عبدالبهاء عبّاس) من مكاتيب حضرة عبدالبهاء، المجلد ١، الصفحة ٨٣
إنّ موازين الإدراك أربعة لا غير كما هو مسلّم به. يعني أنّ إدراك حقائق الأشياء إنّما يكون بهذه الموازين الأربعة:
فالأوّل ميزان الحسّ، وكلّ ما يدرك بالعين والأذن والشّم والذّوق واللّمس يسمّى محسوساً، وإنّ فلاسفة أوروبا اليوم يعتبرون هذا أتمّ ميزان ويقولون إنّ الحسّ أعظم الموازين ويعتبرونه مقدّساً، والحال أنّ ميزان الحسّ ناقص لأنّه يخطئ، مثلاً إنّ البصر وهو أعظم قوى الحسّ قد يرى السّراب ماء، ويرى الصّور المرئيّة في المرآة حقيقة موجودة، والأجسام الكبيرة صغيرة، والنّقطة الجوّالة دائرة، ويرى الأرض ساكنة والشّمس متحركة إلى غير ذلك من الخطأ في كثير من الأمور، فلهذا لا يجوز الاعتماد عليه.
والثّاني ميزان العقل وكان ميزان الإدراك لدى الفلاسفة الأول أساطين الحكمة، فكانوا يستدلّون بالعقل ويتشبّثون بالدّلائل العقليّة، لأنّ استدلالاتهم جميعها عقليّة، ومع وجود هذا فقد اختلفوا كثيراً وكانت آراؤهم مختلفة، حتّى كانوا يغيّرون فكرهم يعني أنّهم كانوا يستدلّون على وجود مسألة ما بالدّلائل العقليّة مدّة عشرين سنة، وبعدئذ ينفونها بالدّلائل العقليّة، حتى أنّ أفلاطون أثبت في البداية بالأدلّة العقليّة سكون الأرض وحركة الشّمس، ثم أثبت بعد ذلك بالدّلائل العقليّة أنّ الشّمس مركز والأرض متحرّكة، وبعده اشتهرت نظريّة بطلميوس ونسيت نظريّة أفلاطون بالكلّيّة وقد أحيا الرّاصد الجديد أخيراً هذا الرّأي مرّة أخرى، وحيث أنّ حضرات الرّياضيّين اختلفوا حال أنّهم جميعاً كانوا يستدلّون بالدّلائل العقليّة، وحيث أنّهم كانوا يثبتون مسألة بالدّلائل العقليّة في فترة من الزّمن ثم ينفونها أيضاً بالدّلائل العقليّة، مثال ذلك أنّ فيلسوفاً كان ثابتاً على رأي مدّة ويقيم الأدلّة والبراهين عليه وبعد مضي فترة ينصرف عن ذلك الرّأي وينفيه بالدّليل العقليّ، إذاً تبيّن أنّ ميزان العقل ليس ميزاناً تامّاً، لأنّ اختلاف الفلاسفة الأول وعدم ثباتهم وتبديل أفكارهم دليل على أنّ ميزان العقل غير تامّ، إذ لو كان ميزان العقل تامّاً لوجب أن يكونوا جميعاً متّفقين في الرّأي متّحدين في الفكر.
والميزان الثّالث ميزان النّقل وهو النّصوص التي ينقلها النّاس من الكتب المقدّسة فيقولون جاء في التّوراة كذا، وقال في الإنجيل كذا، وهذا الميزان أيضاً ليس بتامّ، لأنّ المنقول يدرك بالعقل، وبما أنّ العقل نفسه قد يخطئ فكيف يصحّ أن يقال أنّ إدراكه لمعاني الأقوال المنقولة واستنباطها عين الصّواب وأنّه لا يخطئ في ذلك، إذ من الممكن حصول الخطأ ولذلك لا يكون هناك يقين، وهذا هو ميزان رؤساء الأديان، فما يعرفونه من نصوص الكتاب هو إدراكاتهم العقليّة التي عرفوها من تلك النّصوص لا حقيقة الواقع، لأنّ العقل كالميزان والمعاني المدركة من النّصوص كالشّيء الموزون، فإذا اختلّ الميزان فكيف يعلم قدر الموزون.
إذاً فاعلم أنّ معتقد النّاس وما بين أيديهم يحتمل الخطأ لأنّه إذا جيء بالدّليل الحسّيّ لإثبات شيء أو نفيه فهو ميزان غير تامّ كما سبق بيانه، ولو جيء بالدّليل العقليّ فهو أيضاً غير تامّ، ولو جيء بالدّليل النّقليّ فهو أيضاً غير تامّ، فاتّضح من هذا أنّه ليس في يد الخلق ميزان يعتمد عليه، بل إنّ الميزان الصّحيح الّذي لا شكّ فيه ولا شبهة مطلقاً هو فيض روح القدس والتّأييدات الإلهيّة للإنسان بروح القدس، وفي ذلك المقام يحصل اليقين. (عبدالبهاء عبّاس) من مفاوضات حضرة عبدالبهاء